الاستشراق.. نشأته وأهدافه (الاستغراب).. وإمكانية تدريسه في الجامعات السعودية د.علي بن عبدالرحمن الدعيج*
|
الاستشراق كلمة غربية يمكن أن تعطينا مثالاً جلياً للكلمات التي يضعها اللغويون والنقاد لدراسات عدة ويستخدمها الأدباء في مدلولات متغايرة.
هي عربية بلا شك فهي مأخوذة من أصل عربي خالص هو (ش.ر.ق) ومصوغة على وزن عربي خالص هو الاستفعال، ويرى بعض الناس أنها آبدة من الأوابد، يرميها باللعنات ويرى أنها جالبة المصائب جهراً وخفية... والكلمة تعني تسليط الأضواء على حضارة الشرق.
وقال عنه الدكتور عمر فروخ في مقاله: الاستشراق ما له وما عليه، أنه صيغة مرتجله تدل على الاتجاه نحو الشرق لدراسة وجوه الثقافة فيه من لغة وأدب وتاريخ وفقه وعلوم.
في الحقيقة أن الاستشراق هو عبارة عن تعبير أطلقه غير الشرقيين على الدراسات المتعلقة بالشرقيين: (شعوبهم، وتاريخهم، وأديانهم، ولغاتهم، وأوضاعهم الاجتماعية، وبلدانهم، وسائر أراضيهم وما فيها من كنوز وخيرات، وحضارتهم، وكل ما يتعلق بهم) حيث يقوم هؤلاء المستشرقون بدراساتهم تلك من أجل تقديم دراساتهم ونصائحهم ووصاياهم:
1) للمبشرين بغية تحقيق أهداف التنصير.
2) وللدوائر الاستعمارية بغية تحقيق أهداف الاستعمار الفكري والعقائدي والمادي.
ومن هنا يتبين لنا أن الاستشراق هو دراسة الغرب لعقائد وأخلاق الشرق وإن كان قد أقتصر في الآونة الأخيرة على الشعوب المسلمة ودراسة الناحية الدينية من أجل القضاء على الإسلام وأهله.
والمعنى الخاص للاستشراق هو الدراسات الغربية المتعلقة بالشرق الأوسط الإسلامي في عقائده وأخلاقه وعاداته وتقاليده وتشريعاته بغية الانتقاد والنيل منه. فلقد ظهرت حملات مسعورة ضد أمتنا الإسلامية وتاريخها المشرق يقودها بعض المنصرين، والمستشرقين وكذلك، وللأسف الشديد البعض من أبناء الأمة الإسلامية الذين رباهم المستشرقون، ونفثوا السموم في عقولهم، حتى أصبحوا يرددون ما يقوله بعض أساتذتهم المستشرقين دون تروّ أو تعقل، أو حتى دون بذل قليل من الجهد للبحث عن الحق والصواب.
ولذا فإن للمستشرقين أثرا خطيرا على أمتنا الإسلامية، خاصة وأن هؤلاء المستشرقين يشكلون جذورا حقيقية كانت وما زالت تقدم المال والعون للتنصير والاستعمار.
فالاستشراق هو المصنع الفكري الذي يمد المنصرين والملحدين والمستعمرين بالمواد الهدامة، لكي ينشروها في العالم الإسلامي، وذلك لتحطيم عقيدته، وهدم أفكاره، لأجل الدعوة إلى معتقداتهم الباطلة أو على الأقل تشكيك المسلمين في دينهم.
قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (109) سورة البقرة.
أما نشأة الاستشراق فإنه من الصعوبة بمكان تحديد وقت معين لبدايته فأغلب الكتاب والباحثين قد خاضوا في تحديد تاريخ نشأة الاستشراق.
فهناك بعض الباحثين يشيرون إلى أن الغرب النصراني يؤيد بأن هناك استشراقا غير رسمي قبل صدور مجمع (فينا) الكنسي عام 1312م، عندما أُنشئت العديد من كراسي اللغة العربية في العديد من الجامعات الأوروبية، فهذا التاريخ يدل على وجود استشراق كبداية رسمياً.
ويرى بعض علماء الغرب أن بداية الاستشراق تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي والذي تمت فيه لأول مره ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية في حين يرى البعض الآخر أن الاستشراق قد بدأ في القرن العاشر الميلادي. وهذا يدل على وجود اختلاف كبير في تحديد زمن بدايته ومما يؤيد ذلك ما ذكره الدكتور مصطفى السباعي في بحثه والذي ألقي على شكل محاضرة بعنوان (الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم) ص 1530 بأنه لا يعرف بالضبط من هو أول غربي عني بالدراسات الشرقية ولا في أي وقت بالتحديد كان ذلك، ولكن من المؤكد أن بعض الرهبان الغربيين قصدوا الأندلس في إبان عظمتها ومجدها وتثقفوا في مدارسها وترجموا القرآن الكريم والكتب العربية إلى لغاتهم، وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف العلوم وبخاصة في الفلسفة والطب والرياضيات. ومن أوائل الرهبان: الراهب الفرنسي (جربرت) الذي انتخب بابا لكنيسة روما عام 999م وذلك بعد تعلمه في معاهد الأندلس وعودته إلى بلاده وكذلك أيضاً منهم الراهب (بطرس المحترم 1092 1156م) ومنهم الراهب (جيراردي كريمون 114 1187م).
وبعد أن عاد هؤلاء الرهبان إلى بلادهم نشروا ثقافة العرب ومؤلفات أشهر علمائها ثم أسست المعاهد للدراسات العربية أمثال مدرسة (بادوي) العربية، وأخذت الأديرة والمدارس العربية تدرس مؤلفات العرب المترجمة إلى اللاتينية وهي لغة العلم في جميع بلاد أوروبا آنذاك واستمرت الجامعات الغربية تعتمد على كتب العرب وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسات قرابة ستة قرون.
ولم ينقطع منذ ذلك الوقت وجود أفراد درسوا الإسلام واللغة العربية، وترجموا القرآن الكريم، وإذا بأعداد هائلة من نوادر المخطوطات العربية تنتقل إلى مكتبات أوروبا ولقد بلغت في أوائل القرن التاسع عشر مائتين وخمسين ألف مجلد وما زال هذا العدد يتزايد حتى اليوم. وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام 1873م، وتتالى عقد المؤتمرات التي تلقي فيها الدراسات عن الشرق وأديانه وحضارته، وما تزال تعقد حتى اليوم.
وفي القرن الثامن عشر الميلادي ظهر الاستشراق بصورته العلمية والفكرية الأكيدة حيث ظهر في إنجلترا ثم في فرنسا ثم بعد ذلك أدرج مفهوم الاستشراق بمعناه الحالي في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838م. ولو لاحظنا الاهتمام الغربي بتراث الشرق الأوسط وعاداته وبالأخص عقائد المسلمين واخلاقهم لم يقع فعليا بعد الصراع بين المسلمين والنصارى في الاندلس، وصقلية. والسبب وراء ذلك يعود إلى أن الدين الإسلامي يمثل مشكلة بعيدة المدى المدى بالنسبة للعالم الغربي النصراني في أوروبا على كافة المستويات.
حيث ان منهج المستشرقين وأهدافهم من الناحية الفكرية يرمي إلى تشويه الإسلام، وأرى أن أصوله وجذوره لها علاقة ببداية الدعوة الإسلامية في عهد خير البشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث ان منهجهم مستمد من منهج المنافقين في ذلك الزمن وعلى رأسهم عبدالله بن أبي بن سلول، وبعد عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام حيث سلك مسلك كبير المنافقين عبدالله بن سبأ اليهودي وهذه ذريتهم واتباعهم من بعدهم يسلكون طريقتهم ويقتفون منهجهم.
وأما خطورة الاستشراق فقد أشار إليها الدكتور جمال سلطان في مقالة أو حول دعوى التجديد أو خطرها على التراث حيث يرى أن ظهور موجة من الدراسات الفكرية والتاريخية في التراث الإسلامي تحمل شعارات براقة مثل (التجديد) و(الاستنارة) وينتمي رموزها واصحابها إلى عدة توجهات (أيدلوجية) غريبة عن الإسلام عقيدة وحضارة، وناشزة عن تراث الأمة روحاً وتكويناً نفسياً وعقلياً، فما كان إلا وأن التفت تلك الرموز والرؤى حول الإسلام عقيدة وتاريخاً، وذلك لما يضفيه هذا الالتفاف على أطروحتهم الفكرية وتوجهاتهم الأيدلوجية من أطر زائفة، وأغلفة براقة كاذبة، متمسحة بتراث الأمة وتاريخها، فكان هذا العبث الخطير، في الفكر والتاريخ الإسلاميين، تحت ستار التجديد والاستنارة متمثلاً في دراساتهم للتراث.
وقد ذكر عبدالرحمن الميداني في كتابه (أجنحة المكر الثلاثة) أن للمستشرقين وسائل فكرية مختلفة يتبين من خلالها خطر الاستشراق على الأمة الإسلامية مجملاً هذه المسائل (التشكيك القاء الشبهات المغالطات تزيين الافكار البديلة افتراء الأكاذيب).
وتعود الوسائل الفكرية الرئيسة التي استخدمها المستشرقون لهدم الإسلام، وتجزئة المسلمين، وتشويه تاريخ الأمة الإسلامية، وتشويه حاضرها، وخداع أجيال هذه الأمة بنبذ الإسلام واتباع مناهج وأساليب الحضارة المادية المعاصرة، إلى الأصول التالية:
* التشكيك في مصادر الدين.
* التشكيك في صحة نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
* إلقاء الشبهات حول أحكام الإسلام التشريعية ومصادرها.
* تزيين الافكار البديلة.
* افتراء الأكاذيب واختراع التعليلات والتفسيرات الباطلة.
* التلطف في دس السموم الفكرية بصورة خفية ومتدرجة.
دوافع المستشرقين وأهدافهم:
أما دوافع المستشرقين وأهدافهم فباستطاعتنا أن نستنتج دوافعهم وأهدافهم من خلال أعمالهم وما قاموا به من أمور لتحقيق أهدافهم من خلال صلة الاستشراق بالتنصير والاستعمار. ولعل من أبرز أهدافهم باعتبارها المحرك والمحرض النفسي لاتخاذ الوسائل التي توصل إلى الأهداف وهي (الدافع الديني، الدافع التجاري والاقتصادي، الدافع السياسي، الدافع العلمي).
أما الأهداف المنشودة من هذه الدوافع فمن خلال الدافع الديني فإن هدفهم هو إخراج المسلمين عن دينهم، أو تنصيرهم إن أمكن أو إبقاؤهم بلا دين أو اي هوية لأن هذا يخدم لتحقيق أهداف النصارى المرتبط بمنافعهم ومصالحهم السياسية والاقتصادية وغيرها لذا فإنهم قد استخدموا ولا يزالون يستخدمون وسائل لإخراج المسلمين عن دينهم مثل:
تنفير المسلمين من دينهم وحملهم على كراهيته.
تشويه الإسلام والتشكيك فيه، وتشويه التاريخ الإسلامي وتشويه حضارة المسلمين.
نبش الحضارات القديمة وإحياء معارفها لربط بعض المسلمين بها.
تزيين ما في المسيحية من تعاليم وتبديل طريقة كتابها.
ومن ناحية الدافع التجاري والاقتصادي فإن هدفهم هو تحصيل الأموال والمطامع الاقتصادية. والدافع السياسي لتحقيق غايات سياسية، تريد تحقيقها عن طريق الدراسات التي من خلالها يمكن تسيير دول العالم الإسلامي في أفلاكها. وكذلك هم يهدفون إلى تحقيق إشباع نهمهم العلمي المتجرد كما يدعون وتحصيل معرفة صحيحة تتصل بأمة ذات علم، وحضارة أصيلة عن طريق دافعهم العلمي.
ولقد أشار الدكتور عبدالرحيم عثمان في كتابه: معالم الثقافة الإسلامية أن أبرز هدف للمستشرقين هو إضعاف مثل الإسلام وقيمه العليا من جانب، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر، وإظهار أي دعوة للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر.
كيف لا يكون قصدهم ذلك وبعض المستشرقين يقول ذلك صراحة في كتبهم ومقالاتهم فمن فمك أدينك فهذا المستشرق روي بارت يقول(..... فنحن معشر المستشرقين عندما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية والعلوم الإسلامية لا نقوم بها أبداً لكي نبرهن ضعة العالم العربي الإسلامي، بل على العكس، نحن نبرهن على تقديرنا الخاص للعالم الذي يمثله الإسلام، ومظاهره المختلفة، والذي عبر عنه الأدب العربي كتابة، ونحن بطبيعة الحال لا نأخذ كل شيء ترويه المصادر على عواهنه دون ان نعمل النظر فيه).
وما ذكره بارت من مدح وثناء لمنهج المستشرقين ما هو إلا تضليل فقط وإدخال السم في العسل عن طريق شعارات براقة وتأكيد نزاهتهم العلمية.
كما أن المستشرقين قد حولوا الأدعاء بأن الشريعة الإسلامية ليست شريعة منزلة بل هي جماع ما كان لدى العرب من الأعراف وهذا ظن كاذب قد ادعاه المستشرق الألماني شاخت وغيره، ورد عليه علماء الإسلام بأنها دعوى باطلة.
من هنا فإنه من الواجب علينا نحن المسلمين أن نولي اهتماماً بالغاً بثقافتنا الحضارية وهويتنا الإسلامية. ولقد قامت حكومة خادم الحرمين الشريفين متمثلة في الحرس الوطني وبمباركة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني حفظه الله بإعطاء مهرجان الجنادرية لإحياء التراث والثقافة السعودية والإسلامية دورا كبيرا وبارزا في المحافظة على التراث الإسلامي بمختلف مقوماته الدينية والثقافية.
وإنها فرصة سانحة للجامعات السعودية والعربية للتصدي لمثل تلك الأفكار الهدامة التي يواجهها المسلمون في شريعتهم وتراثهم وفكرهم من قبل أغلب المستشرقين بأن يكون هناك أقسام خاصة في الجامعات وبالذات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة الأزهر الشريف بالقاهرة تتولى الدراسات الغربية وهو ما يسمى بالاستغراب. لأن افضل وسيلة للتخاطب مع هؤلاء المستشرقين والرد على ادعائهم ليس بالدفاع فقط ولكن بدراسة حياتهم الخاصة والعامة وتراثهم وثقافتهم لمعرفة نقاط الضعف والقوة. ويمكن عمل ذلك من خلال إرسال بعثات دراسية لأوروبا للبحث عن قرب في تراث الغرب وحضارته وسلوكياته ومعتقداته الدينية وطوائفه العرقية.
فوجود مثل هذه المراكز والأقسام العلمية المتخصصة في دراسة الغرب قد يضفي نوعاً جديداً من طرق البحث العلمي عبر استخدام الوسائل العلمية المتاحة من خلال دراسات وثائقية واستطلاعية وعبر المشاركة بالملاحظة عن طريق الاندماج الفعلي في المجتمع فنحن أولى من يقوم بدراسة الغرب (شعوبه، تاريخه، أديانه، لغاته، أوضاعه الاجتماعية وعلاقاته الاسرية، مشكلاته الاقتصادية، وحضارته......).
فعلى سبيل المثال لا الحصر قضية حقوق المرأة حيث تبين للدارس المبتعث والمشارك لحياتهم عن قرب بأن موضوع حقوق المرأة ما هو إلا وسيلة للوصول إلى مبتغاهم من الدول غير الغربية، فالواقع لديهم ليس هناك تطبيق فعلي لحقوق المرأة كما هو مأمور به في الإسلام بل إن كل ما يدعونه ويتغنون به حول تلك الحقوق ما هو إلا زيف وتزوير للحقائق فالواقع كما قيل (ليس راءٍ كمن سمع).
والله الموفق والمستعان.
* عضو هيئة التدريس بكلية الملك فهد الأمنية
abumoud@yahoo.com.uk
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|