د. ناهد باشطح
فاصلة:
«الكذبة تسافر نصف العالم قبل أن ترتدي الحقيقة حذاءها»
- مارك توين -
*****
طوال معيشتي في مانشستر، ومنذ دراسة أطفالي في المدارس الحكومية البريطانية أيام دراستي للدكتوراة، وأنا أعرف أن إغلاق المدارس لا يتعلق بالمدارس نفسها إلا في استثناءات محددة.
وحين طالعت الصحف البريطانية الأسبوع الماضي وقرأت عنوانًا لخبر صحفي يقول إن «الإنفلونزا الفائقة قد تُسقط النظام الصحي البريطاني، والمدارس تغلق أبوابها»، تبادر إلى ذهني سيناريو تعليق الدراسة، وعودة مشاهد الهلع التي عرفها العالم في سنوات الجائحة، لكني تساءلت فلماذا المدارس في مانشستر لم تغلق؟!
هذا يعني أن إغلاق المدارس لم يطل جميع مدارس بريطانيا ولم يكن قرار الحكومة والحال لا يشبه سيناريو إغلاق المدارس الشامل أيام جائحة كورونا.
هناك فرق بين العنوان الإعلامي المثير والتصريح السياسي التحذيري، والبيانات الصحية الرسمية، وكان لابد من متابعة الصحف البريطانية أولا لمعرفة هل الخبر صحيح أم مضلل؟!
بعض وسائل الإعلام البريطانية، مثل (ITV وThe Telegraph) استخدمت توصيفات قوية مثل:
(Super flu surge) موجة الانفلونزا الخارقة، (could collapse NHS) قد ينهار النظام الصحي.. هذه العبارات جاءت في سياق تحذيري مرتبط بـارتفاع إصابات الإنفلونزا، لكنها لم تكن إعلانًا رسميًا بانهيار فعلي.
الجهات الصحية الرسمية مثل «وكالة الأمن الصحي في المملكة المتحدة» تؤكد ارتفاعًا في نشاط الإنفلونزا، لكنه ضمن الإطار الموسمي المعروف شتاءً..وهيئة الخدمات الصحية الوطنية «NHS»، تواجه ضغطًا أعلى من المعتاد، دون إعلان حالة طوارئ ولا يوجد قرار حكومي بإغلاق المدارس على مستوى البلاد، وأي إغلاق يتم محليًا، حسب وضع كل مدرسة
إذاً لماذا تُضخَّم وسائل الإعلام العناوين؟
الإعلام يميل إلى تضخيم السيناريو الأسوأ واستخدام عبارات احتمالية مثل (could, may) تجعل القارئ غالبًا يلتقط النتيجة المتخيلة، ويتجاهل كلمة «قد، ربما»، وهنا يحدث التزييف السياقي حيث ينشر الإعلام معلومة صحيحة ضمن سياق مضخم فيحدث الاستنتاج الخاطئ
ففي حين تستخدم العناوين الإعلامية لغة الإنذار المبكر، تعتمد الجهات الصحية على البيانات لاتخاذ القرار، وهو ما يفسر استمرار كثير من المدارس في العمل، والتركيز على التطعيم والوقاية بدل الإغلاق.
كما أنه بعد أيام من نشر أخبار إغلاق بعض المدارس، نشرت صحيفة التلغراف تصريحاً لمتحدث باسم الحكومة إن اغلاق المدارس يجب الا يتم الا في الظروف القاهرة وأن الإغلاقات كانت محدودة، والسياسة الرسمية هي عدم الإغلاق، في محاولة واضحة لإعادة ضبط السرد الإعلامي قبل أن يتحول القلق إلى ذعر جماعي
تدخل الحكومة هو محاولة لاحتواء تضخيم إعلامي أربك أولياء الأمور وأعاد إلى الذاكرة سيناريوهات الإغلاق الشامل زمن كورونا.
وفي مقارنة لتغطيه الاعلام العربي لموضوع ازدياد عدد المصابين بالانفلونزا واغلاق بعض المدارس، نجد أن مواقع التواصل الاجتماعي العربية وبعض الاعلام المكتوب والمرئي اكتفت بنشر الخبر في قالبه التهويلي
ليست المشكلة في الخبر الأجنبي، بل في الطريقة التي يُنقَل بها، فعندما يُجتزأ السياق، ويُضخَّم العنوان، وتُهمل التفاصيل، يتحول الإعلام من ناقل للمعرفة إلى صانع للقلق، وبين «مدارس أغلقت احترازيًا» و»الدولة تأمر بالإغلاق» مسافة اسمها التحقق، وإذا سقطت هذه المسافة سقطت الثقة.
وفي زمن تتسارع فيه الأخبار، يصبح التروي واجبا مهنيا، ويصبح سؤال «ماذا يعني هذا الخبر فعلًا؟» أهم من سؤال «كم سيحقق من تفاعل؟». فالإعلام الذي يهوّل اليوم، قد يفقد غدًا قدرته على الإقناع حين تكون الحقيقة فعلًا على المحك.
خطورة التضخيم الإعلامي لا تكمن في الخطأ نفسه، بل في أثره، فعنوان واحد مبالغ فيه كفيل بإرباك الأسر، وإحياء مخاوف قديمة، ودفع الحكومات إلى تصحيح رواية لم يكن يجب أن تُشوَّه أصلًا، وهنا لا يصبح الإعلام ناقلًا للواقع بل صانعا لحالة نفسية جماعية.
* * *
المصادر
Telegraph. (2025, December 8). Schools go into lockdown as flu sweeps nation. The Telegraph. Retrieved from https://www.telegraph.co.uk/news/2025/12/08/schools-go-into-lockdown-as-flu-sweeps-nation/
Telegraph. (2025, December 9). Do not lock down for flu outbreak, schools told. The Telegraph. Retrieved from https://www.telegraph.co.uk/news/2025/12/09/do-not-lock-down-for-flu-outbreak-schools-told/