د.زيد محمد الرماني
لدى التاريخ الاقتصادي للقرن الماضي، ولا سيما في السنوات التي تلت الحرب العالية الثانية، أمثلته الخاصة عن الصعود والانحدار. فهي ليست ميلودرامية مثل بعض تفسيرات الحضارات القديمة، لكنها أقل غموضاً، وربما كان الصعود والانحدار أسرع. لقد كان اقتصاد ألمانيا واليابان مدمّراً مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتساءل مراقبون ذوو قناعات مختلفة، ومن أصول مختلفة، ما إذا كانت هذه المجتمعات التي منيت بهزائم منكرة قادرة على تأمين حتى أساسيات البقاء على قيد الحياة. وكما يعرف الجميع، تمّتع اقتصاد ألمانيا الغربية واليابان (بمعجزات اقتصادية) جعلهما الآن من بين أكثر الاقتصادات ازدهاراً في العالم. لقد ازدادت أهمية رسالة كتاب (صعود الأمم وانحدارها)، لمؤلفه مانكور أولسون للغاية، لأن أمريكا (ومعظم دول العالم الثري) قد تطوّرت بالطريقة التي توقّعها أولسون تماماً. وأصبحت جماعات المصالح الخاصة أكثر رسوخاً من أي وقت مضى، مثل أصحاب المنازل الذين يعرقلون أية عملية بناء جديدة، والمتقاعدين الذين يعارضون أي إصلاح لتوفير تكاليف الرعاية الطبية. وانتشرت الأنظمة التي تحمي من هم داخل المجموعة، مثل اشتراطات الترخيص المهني لمصممي الديكور وبائعي الزهور. وتراجع إنشاء الأعمال التجارية الجديدة بين ثمانينات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ونما الاقتصاد الأمريكي منذ عام 1980 بنسبة أقل بكثير مما كانت عليه قبل هذا التاريخ.
لذا, يصوّر هذا الكتاب العملية التي يؤدي من خلالها الازدهار السلمي، إلى تكوين (ائتلافات توزيعية) تثري نفسها. هذا الكتاب أعاد انتباه أولسون إلى قلب الاقتصاد. لم يشرح أولسون في هذا الكتاب سبب قيام بعض الصناعات بالضغط بشكل أكثر فعلية من غيرها. بل أوضح سبب ازدهار بعض الاقتصادات وتراجع بعضها. على النقيض من ذلك، يلمح هذا الكتاب إلى أن المراجع التاريخية المتسارعة تُشير إلى مدى ضآلة فهم صعود الأمم أو سقوطها. كما أوضح أولسون سبب ازدهار الغرب الأمريكي بينما كانت نيويورك تواجه الإفلاس، ولماذا أصبحت ألمانيا ما بعد الحرب غنية بينما أصبحت بريطانيا في الفترة ذاتها راكدة. لقد رأى القوى السياسية تلوح في الأفق بشكل كبير فيما يتعلّق بالمصير الاقتصادي للأمم، وقد صاغ نظرية كاملة حول كيفية تأثير الاقتصاد على الحياة السياسية، وكيف تؤثر السياسة على الاقتصاد بشكل متبادل.
في زمن يجد فيه الكثيرون أخطاء في الاقتصاد، قد يبدو غريباً أن يدعي اقتصادي أنه سيوسّع النظرية الاقتصادية الحالية بطريقة لا تفسّر الركود الاقتصادي المرافق للتضخم، ومعدّلات النمو المتراجعة. ومع ذلك فإن التوسّع الناجح، أو تطوير شيء ما نجد أنه غير كاف، هو أمر شائع جداً: فالتكنولوجيا التي كانت غير عملية أو مليئة بالأخطاء، ربما تصبح اقتصادية وموثوقة بعد مزيد من التطوير. لذلك فإن الاقتصاد أيضاً لدى مواجهته شكوكاً متزايدة، ومع وجود فكرة جديدة، ربما يساعد في تفسير القضايا التي لم يكن يستطيع تفسيرها سابقاً.
ومن المؤكد أن الاقتصادي المخضرم اليوم، مهما كانت مكانته محدودة، يمكنه الادعاء بأنه في موقع عالٍ. فالخبير الاقتصادي هو وريث الكثير من المفكرين المشهورين بالعبقرية مثل (آدم سميث)، (ريكاردو)، (ستيورات ميل)، (كارل ماركس)، (والراس) ((ويكسل) (مارشال) و(كينز). وبما أن عمالقة الاقتصاد يقفون بدورهم عادة على أكتاف أسلافهم، يبدو المشهد الآن وكأن اقتصادي اليوم يقف على قمّة هرم عظيم من المواهب. إذاً، لماذا فشل الكثير من الاقتصاديين في توقع ظهور حقائق اقتصادية جيدة في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين؟ ربما يعود سبب ذلك إلى أنهم، وهم مسلّحون بأدوات توجيههم الاحترافية، نظروا إلى الأمام فقط، إلى الظواهر التي اعتاد الاقتصاديون على دراستها. لذا, حاول هذا الكتاب إظهار أننا إذا بذلنا جهداً للنظر من مختلف الأوجه، إلى مجالات تخصصات أخرى، فسنحظى بمنظور مختلف تماماً عن المشهد كله.
يقول أولسون : لقد عملت بجدّ على تأليف هذا الكتاب بلغة مختلفة عن تلك التي كنتُ أستخدمها في المقالات والمجلات الاقتصادية لأن هذه الدراسة تشمل الكثير من المجالات التخصصية، ولأنها تطمح إلى ما هو أكثر من ذلك، للوصول إلى صانعي السياسات والطلاب. لذلك فإن هذا الكتاب أطول مما ينبغي أن يكون عليه بالنسبة إلى زملائي الاقتصاديين الذين يشكلون أول اهتمام لي، لكنني أعتقد أنه متاح أيضاً للرجال والنساء البارعين في أية مهنة.