جانبي فروقة
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد «روبوت دردشة» نسأله فيجيب أو نطلب منه كتابة بريد إلكتروني فيطيع، بل أصبح شريكاً اجتماعياً وتجارياً وتربوياً يعيد صياغة الطريقة التي نعيش ونتعلم ونتسوق بها وحتى الطريقة التي ننشئ بها أطفالنا، نحن اليوم ومع مشارف عام 2026 نقف على أعتاب تحول جذري في علاقتنا مع الآلة فلقد انتقلنا من عصر «الذكاء التوليدي» الذي يصنع المحتوى إلى عصر «الذكاء التنفيذي - عن طريق وكيل الذكاء الاصطناعي» (Agentic AI) الذي يتخذ القرارات وينفذ المهام.
ما يحدث اليوم ليس «تطورًا تقنيًا» بل تحوّل بنيوي في السلوك البشري والاقتصادي والاجتماعي ولفهم هذا التحول يكفي النظر إلى قطاعين مختلفين تمامًا لكنهما يعكسان عمق التغيير نفسه: رحلة التسوّق ورحلة الطفولة.
تخيل عالماً لا تتصفح فيه أمازون لساعات ولا تراجع فيه واجبات طفلك المدرسية، عالم يقوم فيه وكيلك الرقمي بكل هذه المهام وهذا العالم ليس خيالاً علمياً، بل هو الواقع الذي ترسمه تقارير الإيكونوميست و«مجموعة بوسطن للاستشارات» (BCG) وتحليلات الخبراء لما يحدث الآن في الأسواق وغرف الأطفال على حد سواء.
شهدنا في الأسابيع القليلة الماضية سباق تسلح تقني مرعب في هدوئه يبشر بعصر نودع فيه التسوق كما نعرفه ونرحب بالوكيل المشتري فقد أطلقت OpenAI ميزة «الدفع الفوري» وتعاونت مع Walmart، بينما دمجت Google وكلاء التسوق في محرك بحثها «Gemini». فلم يعد الأمر يتعلق بالبحث عن منتج بل كل ما عليك فعله هو إصدار أمر: «جِد لي حذاءً رياضياً أخضر اللون، سعره أقل من 90 دولاراً، واشتره».
وهنا تكمن الثورة وتكمن المعضلة أيضاً فوفقاً لأبحاث BCG، يتوقع 81% من المستهلكين الأمريكيين التسوق عبر هؤلاء الوكلاء الأذكياء ونحن نتحدث عن اقتصاد جديد قد تصل فيه المبيعات الموجهة عبر «الوكلاء» إلى 1.3 تريليون دولار لكن «روهان بانجواني»، المدير التنفيذي في BCG، يرى أن هذا ليس مجرد تطور للتجارة الإلكترونية بل إعادة صياغة لنسيج الحياة الاستهلاكية، والجانب المشرق هنا هو الراحة المطلقة حيث سيتولى «الوكيل» المهام الروتينية والمملة من شراء المنظفات وطلب الفيتامينات وحتى حجز المطاعم وسيقوم بمقارنة آلاف الأسعار والمواصفات في ثوانٍ ليمنحك الخيار الأمثل. ولكن ماذا عن الجانب الآخر؟ ففي عالم يطلب فيه المستهلك «حذاءً أخضر تحت الـ90 دولاراً» هذا يعني أن أي حذاء سعره 91 دولاراً، أو لونه أزرق سيختفي تماماً من الوجود الرقمي لهذا المستهلك وهذا سيؤدي إلى نهاية عصر «التسوق الاستكشافي» والشراء المندفع الذي تعتمد عليه العلامات التجارية والعلامات التجارية للشركات ستواجه خطر التحول إلى مجرد سلع صامتة (Commoditization)، حيث الولاء ليس للعلامة التجارية بل لخوارزمية الوكيل الذي يقرر الشراء.
إذا كان الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل الطريقة التي ننفق بها أموالنا فهو بصدد إحداث تغيير أعمق وأخطر في الطريقة التي نربي بها أطفالنا أيضا فبينما ننشغل نحن البالغين بترك الوكلاء يديرون مشترياتنا يفتح أطفالنا هدايا عيد الميلاد ليجدوا دُمىً تتحدث وتناقش بل وتُعلم فقد أعلن صناع الألعاب أن عام 2025 هو عام الذكاء الاصطناعي في غرف الأطفال فنحن أمام جيل ينشأ في ظل «طفولة ملكية» كانت حكراً في السابق على أبناء الملوك والأثرياء حيث سيتوفر لهم معلمون خصوصيون (AI Tutors) ومناهج دراسية مُفصلة حسب قدرات الطفل وألعاب فيديو تتكيف مع مهاراته بل وحتى قصص ما قبل النوم التي تُكتب خصيصاً لتجعل من الطفل بطلاً لها. يبدو الأمر مثالياً فالمعلم الآلي لا يمل ولا يغضب ويمكنه شرح درس التاريخ عشرين مرة بأساليب مختلفة حتى يفهمه الطفل إنه ينقذ الأذكياء من ملل الفصول التقليدية وينقذ المتعثرين من الضياع في الزحام ولكن هذه العزلة الناعمة والتقوقع والعيش في غرف الصدى (وكما يكتشف الملوك غالباً فإن التنشئة «المفصلة على المقاس») قد تخلق عزلة قاتلة فالخطر الحقيقي الذي يهدد أطفالنا ونحن أيضاً كمستهلكين هو ما يمكن تسميته بـ «فخ الإرضاء»، فالذكاء الاصطناعي سواء كان وكيلاً للتسوق أو دُمية متحدثة مبرمج ليعطيك ما تريد وما تحب وما تتفق معه فقط. ففي التسوق، هذا يقتل الصدفة (Serendipity) فأنت لن تكتشف منتجاً جديداً لم تكن تعرف أنك بحاجته لأن الخوارزمية حجبت كل ما هو خارج نطاق طلبك الدقيق وفي التربية الأمر أخطر بكثير فالطفل الذي يحب كرة القدم سيحدثه «دبدوبه الذكي» عن الكرة فقط وسيعطيه معلمه الآلي أمثلة حسابية عن الكرة وهذا يخلق «غرف صدى» (Echo Chambers) مبكرة جداً.
والأكثر رعباً هو نشأة جيل يتعامل مع «أصدقاء آليين» لا يعارضونهم أبداً والتقارير الأخيرة تشير إلى أن ثلث المراهقين الأمريكيين يجدون الحديث مع الذكاء الاصطناعي أكثر إرضاءً من البشر لأن الروبوت لا ينتقد ولا يملك مشاعر خاصة ولا يطلب منك التنازل إنه «موافق» دائماً وهذا يخلق أطفالاً غير مؤهلين للحياة الواقعية التي تتطلب التفاوض والتنازل والتعامل مع زملاء عمل مزعجين أو شركاء حياة مختلفين في الطباع. وتشير التقارير BCG أن 18% من إجمالي التجارة الإلكترونية الأمريكية قد يُدار قريباً بواسطة وكلاء مستقلين بالكامل (حوالي 400 مليار دولار) وأن 55% من الإنفاق الإلكتروني قد يصبح «بمساعدة الوكلاء» خلال سنوات ونحن اليوم أمام مفترق طرق تاريخي «التجارة عبر الوكلاء» ستفرض على الشركات والأسواق تغيير إستراتيجياتها بالكامل لتصبح بياناتها قابلة للقراءة من قبل الآلات لا البشر فقط أما بالنسبة لنا كآباء وأمهات ومجتمع فالمسؤولية أعظم.
يجب أن نعيد التفكير في معنى «النمو» المدارس اليوم أمام تحدٍ وجودي ليس فقط لدمج التقنية بل لتدريس ما لا تستطيع الروبوتات تدريسه كالاختلاف والنقاش والقدرة على التعايش مع من لا يوافقنا الرأي.
إن الذكاء الاصطناعي، بوصفه «وكيلاً»، يَعِدُنا بحياة خالية من الاحتكاك (Friction-less) فهو سيتسوق لنا بلا عناء ويربي أطفالنا بلا ملل لكننا ننسى أحياناً أن «الاحتكاك» هو ما يصقل شخصياتنا، فالصعوبة في اختيار هدية أو الخلاف مع صديق في المدرسة أو اكتشاف كتاب بالصدفة على رف مكتبة هذه هي الأشياء التي تجعلنا بشراً.
ويتفق الخبراء اليوم على ضرورة وضع قواعد جديدة للطفولة الرقمية لحماية الأطفال من غرف الصدى الرقمية ومن الاعتماد النفسي على الروبوتات وكذلك ضرورة تبني الشركات لإستراتيجيات جديدة تعيد تعريف دور العلامة التجارية في عصر الوكلاء وكيف تتعامل مع الخوارزميات قبل البشر، قد يكون الامتياز الحقيقي في المستقبل ليس لمن يملك أحدث وكيل ذكي بل لمن يمتلك القدرة والحكمة على إطفاء الزر والخروج لمواجهة العالم الحقيقي.. بكل فوضاه وجماله.