د. سامي بن عبدالله الدبيخي
في قلب العاصمة المقدسة، المدينة التي لا تنام، حيث يلتقي الماضي بالمستقبل عند كل زاوية، تجري اليوم أكبر عملية إحياء حضري في تاريخ مكة المكرمة. هذه العملية ليست مجرد إزالة مبانٍ قديمة في أحياء العشوائيات، بل ولادة جديدة لأحياء كانت شاهدة على عقود من الزمن، تحمل في طياتها قصص آلاف الأسر التي وجدت في مكة الأمان والقرب من البيت العتيق.
كانت مكة في السابق تعاني تناقضًا صارخًا حيث تطل فيها أبراج فخمة على أحياء غير منظمة، العشوائيات التي تفتقر إلى أبسط المقومات مع ما تشكله من مخاطر أمنية وبيئية، وضيق الطرقات، ونقص الخدمات، وكثافة سكانية خانقة. لكن القيادة الرشيدة - حفظها الله - قررت وضع حد لهذا التناقض من خلال برامج تطوير العشوائيات، لأن مكة تستحق أن تكون نموذجًا عالميًا للتوازن بين القداسة والحداثة.
اليوم، وبعد سنوات فقط من إطلاق الاستراتيجية الشاملة لمعالجة وضع الأحياء غير المنظمة، تم إزالة آلاف المباني العشوائية وإنشاء صناديق استثمارية عقارية بمليارات الريالات وصرف تعويضات بملايين الريالات، ومشاريع جديدة أُعلن عن إطلاقها لتستمر عجلة التطوير والتنمية. هذه ليست أرقامًا باردة، بل حياة جديدة لعشرات الآلاف من الأسر المكية.
النهج المتكامل الذي جمع بين التخطيط الدقيق للأعمال التحضيرية، والتمويل الذكي، والتواصل الشفاف هو مكمن السر في نجاح هذه المشاريع. لم يعد المواطن مجرد متلقٍ لتعويض بل شريك حقيقي يختار بين التعويض النقدي الفوري أو الوحدات الاستثمارية في المشروع نفسه، ليصبح مالكًا لجزء من مستقبل مكة. كما أن استصدار الصك الموحد ومنصة «متم» الرقمية وحدت الملكيات، وأنهت عقودًا من التشابكات، وفتحت الباب لاستثمارات القطاع الخاص بثقة غير مسبوقة. وفي الوقت الذي كانت فيه أحياء العشوائيات تحتفظ بجزء بسيط من ملامح أحياء مكة، أصبحت اليوم بوابة لمكة جديدة، تحافظ على هويتها العمرانية (عمارة مكة) وتكرس قدسيتها، وتدعمها بمساحات خضراء وطرق دائرية متطورة وخدمات صحية وتعليمية متكاملة. عملية التطوير لا تبني أبراجًا فقط، بل تبني مجتمعًا متماسكًا يحتضن الجميع، مواطنين ومقيمين، حجاجًا ومعتمرين.
قصص النجاح التي يُكتب عنها اليوم ليست دعاية، بل واقعًا حيًا يعيشه الناس في مكة المكرمة. إن قصة التحول الحضري التي بدأت معالمها تظهر على السطح، ستبرز انعكاساتها على الشكل والتركيبة العمرانية للمدينة، وسيكون التطوير العمراني المنظم والموجه للنقل العام أحد أبرز ركائزها إلى جانب تطوير أحياء العشوائيات غير المنظمة، خصوصًا في ضوء التوجه المستقبلي نحو القطارات لمعاضدة شبكة الحافلات ومساراتها السريعة الحالية. هذا التكامل بين التطوير العمراني لمواقع أحياء العشوائيات والنقل العام بالقطارات والحافلات سيساهم بتوفير أرباح تطوير عقارية لتمويل التكلفة الإنشائية والتشغيلية للنقل كما أشرنا لذلك في مقال سابق لنا بعنوان: «استغلال تحصيل قيمة الأراضي كنموذج لتمويل مشاريع النقل الكبرى» والمقال الآخر «مترو مكة.. بوابة استثمارية لمستقبل مستدام وازدهار اقتصادي».
ختاماً، إن قصة التحول الحضري لعشوائيات مكة اليوم، تتنوع ما بين برامج تطوير وارتقاء وتحسين. إن كل جرافة تعمل في مكة لا تهدم بيتًا، بل تبني أملًا. وكل مواطن يوقّع اتفاقية تعويض لا يودع ماضيه، بل يستعد لاستقبال الأمل الذي يناديه. وفي 2040، لن يكون الحديث «كانت هناك عشوائيات»، بل سيكون الحديث بكل اعتزاز وافتخار: «من هنا كانت البدايات». البداية بإعادة تطوير مكة لتتبوأ مكانتها اللائقة بها: أجمل مدن العالم وأشدها قداسة وأكثرها كرامة لسكانها وزوارها على السواء.