نجلاء العتيبي
لا يحتاج المكان التُّراثي إلى ضوضاء كي يُبرّر وجوده؛ يكفيه أن يقفَ بملامحه الصادقة، محتفظًا بما تبقَّى من أثر الزمن الراسخ في جدرانه؛ فهو ليس مساحة تُلتقَط فيها الصور، إنما جزءٌ من تراث مادي عظيم تشكَّل عبر طبقات زمنية تراكمت فوق بعضها، حتى صار شاهدًا حيًّا على تاريخ لا ينهار، ورغم وضوح قيمته، ثمَّة مَن يتعامل معه كأنه مادَّة خام تحتاج إلى إكساء مصطنع، كأن البساطة لا تكفي لتقديمه، وكأن أصالة المكان لا تبدو كافية ما لم تُحَط بضوء لامع، وسيارة لافتة، ووجهٍ يسعى إلى شهرة سريعة، وهكذا يتحوَّل ما كان تجسيدًا لذاكرة مُتجذّرة إلى مشهد يتبدَّد مع أول لقطة، بينما يظلُّ جوهره ينتظر زائرًا يُصغي إلى تفاصيله بدلًا من أن يستعرض نفسه أمامه.
إن المواقع التراثية لا تطلب سوى ترويج بسيط يتركها تقول ما تريد دون وسيط متكلف؛ فالمكان الذي حمل قرونًا من العُمق لا يتحدَّث بلغة الإعلانات، والطُّرق الضيقة التي حفظت وقع أقدام أجيالٍ لم تُشق لاستقبال مواكب متباهية، والبوابات الخشبية التي بقيت رغم العواصف لم تُصنع لتكون خلفياتٍ لابتسامات معدَّلة؛ فقيمتها الحقيقية تنبعُ من صدقها، ومن قوتها التي جاءت من جذور ضاربة في التاريخ، ومن قدرتها على كشف حياة مضت دون أن تتزيَّن، ومن اتساقها الداخلي الذي ينهار بمجرد دخول مُؤثّر يريد تصوير نفسه أكثر مما يريد رؤية المكان.
حين يدخل الزائر بوعي مفتوح، يلتقط تفاصيل لا تراها عدسات تبحث عن لفت الأنظار، يرى أثر يدٍ رمَّمت جدارًا قبل عقود، يسمع فرقعة خطوة على تراب احتفظ بسكونه الذي لم تنل منه الدورات الطويلة للحياة، يلمح بقايا نقوش كانت ذات يومٍ جزءًا من طقس يومي بسيط، تلك التفاصيل الصغيرة تكفي لإحياء ذاكرة كاملة، وتُقدّم المكان في صورته الحقيقية دون أي عنصر دخيل؛ لأن قوة التراث تأتي من أصالته لا من زخارف تُضاف إليه من الخارج، فكل حجر فيه، وكل باب خشبي، وكل نقش منحوت على الحيطان، يروي قصة مستمرة عن حياة عاشها مَن سبقونا، وعن حضارة صمدت أمام تقلُّبات الزمن.
فالمطلوب ليس إلغاء الترويج، وإنما إعادته إلى حجمه الطبيعي؛ لأن التقديم السهل يمنحُ هذا الإرث العميق فرصة للتعبير، ويجعل الزائر يصل إليه بروح هادئة دون مقارنات مسبقة، أما حين يتحوَّل المكان إلى منصة استعراض، فتُفقَد العلاقة التي يفترض أن تتشكَّل بين الإنسان والزمان المتجسد في تلك المعالم؛ إذ لا يمكن لمشهدٍ يهيمن عليه حضور خارجي ساطع أن ينقل طمأنينة الأزقَّة القديمة أو عبق الجدران التي قاومت المطر والشمس، إن تقدير التراث لا يُقاس بسطوع الضوء أو فخامة الكاميرا، بل بمدى قدرة الزائر على الشعور بعراقة المكان، وفهم السياق التاريخي الذي صنعه.
في هذه المواقع، لا تتكرَّر التجربة مهما تشابهت الأمكنة؛ لكل واحدٍ منها نبرة خاصة؛ فبعضها يوقظ ذاكرة خفية، وبعضها يفتح بابًا للتأمُّل، وبعضها يُعيد ترتيب إحساس الزائر بذاته، هذا التنوُّع لا يحتاج إلى تعديلات إضافية، إنما إلى عين ترى الواقع كما هو واضح وحقيقي، والطريقة الأنسب لجعل الزائر يشعر بروح المكان هي ترك المساحة له كي يختبره دون اضطراب خارجي؛ لأن التراث العظيم يكشف نفسه لمن يقترب منه بحب وإعجاب وإدراك، لا لمن يحاول تغليفه بما لا يُشبهه؛ فالتراث ليس مسرحًا للعرض، إنما تجربة تُحَسُّ وتُفهَم، تُصنَع فيها الانطباعات بعناية حسية ووعي عميق، بعيدًا عن ضوضاء المؤثرات والصور المعدَّة مسبقًا.
ومن خلال هذا الفهم يصبح الحفاظ على التراث عملية تواصُل بين الماضي والحاضر، بين الإنسان والزمان، بين ما صنعه أجدادنا وما نُقدّمه اليوم للأجيال القادمة؛ إنه حوار صامت مع الجدران، مع الطين القديم، مع كل باب ونافذة وجدار، يُذكّرنا بأن المكان العريق ليس مجرد شكلٍ أو منظرٍ، إنما ذاكرة حية تحمل دروسًا وعِبرًا وعمقًا حضاريًّا يستحق أن يُحفَظ ويُقدَّر على حقيقته.
ضوء
«هنا... تستيقظ الذاكرة، ويصبح الزمن رفيقًا يكشف ما تعجز الصور عن قوله».