د. ناهد باشطح
فاصلة:
« الزيف ينتشر أسرع من الحقيقة، ليس لأنه أقوى، بل لأن الإنسان يحب القصص أكثر من الحقائق».
- كارل ساغان -
*****
لم أكن أحسب أن مدينة باردة مثل مانشستر يمكن أن تعلّمني كيف أمارس دفء الإنصات الجميل.
المطر في مانشستر ليس مجرد طقس، بل إيقاع داخلي يسألك أن تمشي ببطء.. أن تعيد ترتيب أفكارك.. وأن تمنح نفسك فرصة لترى ما وراء التفاصيل الصغيرة.
غالب صباحاتي أخرج من شقتي الصغيرة باتجاه يوم جديد ونوايا طيّبة جديدة، أستقبل وجوهًا لا أعرفها لكنها تحمل تلك المسافة التي تتيح لك أن تكون نفسك دون أن يسألك أحد عن خصوصياتك
أمشي، ببطء اطالع في لوحات الشوارع وأسماء المحال والأماكن وأتحدّث مع نفسي كما لو أن الشوارع منصتة بسلام.
لكن في الغربة تبدو الأخبار المتعلقة بوطنك.. بدينك.. بكل ما يتعلق بهويتك ملفتة
وعادة ما ينشر بعض المهاجرين أو الطلاب أخبار الجرائم بشيء من الإثارة
وهي أخبار عن اشتباه الشرطة بمسلمين أو طلاب كمتهمين في جرائم الطعن أو ممارسة الشغب..وتُنشر هذه الأخبار عادة في مواقع التواصل الاجتماعي او مجموعات الواتس اب، التليغرام الخاصة بالطلبة الدارسين في بريطانيا، أو تصلني ممن يتبرع بإيصالها لي من السعودية مفعمة بالقلق.
ولابد من أسئلة مثل: «هل أنت وبناتك بخير؟ هل هناك تضييق على المسلمين؟»
وعبارات مثل «لم تعد بريطانيا آمنة»
حين تصلني مثل هذه الرسائل، أكون وقتها أمارس يومياتي في الرياضة والمشي فانظر إلى الحياة الطبيعية في مانشستر رغم الأخبار السلبية عنها
والسؤال هنا ليس: هل هذه الأخبار صحيحة؟ أم متحيزة لإظهار بريطانيا كدولة عنصرية ضد المسلمين؟
بل: لماذا احتاج البعض إلى تصديق هذه الأخبار؟
الخبر الكاذب الذي انتحل صفة الحقيقة لم يكن عن المهاجرين أو الطلاب المسلمين أو تحديدا السعوديين.. بل كان عن فكرة الخوف.
الخوف من أن يعيش الطالب المسلم والعربي في بيئة غربية بلا حماية.
أن يُفهم وجوده هنا سياسيًا، رغم أنه جاء طالب علم لا ناشط مظاهرات ولا مجرم.
الخوف من المدينة نفسها، من غموضها، من قوانينها، من اختلافها.
الشائعة أعادت إنتاج صورة نمطية قديمة:
«الغرب لا يرحّب بنا».
مع أن تجربتي منذ أيام ابتعاثي لدراسة الدكتوراة قبل سنوات وتجربتي لسنتين حاليا تقول العكس تمامًا ولا شيء يحدث صدفة إذ عادة أقابل أحداث الجرائم التي يتورط بها مسلمون بأحداث تشعرني بأن الأمان بالله دائما ثم بما نفكر فيه..
أتذكر عندما وصلني خبر عن تورط أحد المهاجرين بجريمة طعن، في نفس يوم انتشار الخبر، دخلت متجراً صغيرًا لشراء شاي أعشاب.
رحّبت بي البائعة، وسألتني عن جنسيتي فأخبرتها، تحدثنا لبضع دقائق عن الثقافة السعودية وعن الرياض التي زارتها قبل عامين في مؤتمر.
في تلك اللحظة أدركت أن المدينة التي تحتفي بالاختلاف لا يمكن أن تتحوّل، بين ليلة وضحاها، إلى مدينة «تعتقل طلابًا بسبب الاحتجاج، او يدهس أحد مواطنيها بالسيارة امرأة لأنها ترتدي الحجاب».
لكن لماذا تنتشر الشائعة في بيئة المغتربين؟
هناك ثلاثة أسباب:
1) القلق الجمعي للمغترب..
المغترب يعيش دائمًا على الحدّ بين عالمين، وهذا يجعله أكثر قابلية لتصديق أي خبر يوحي بالخطر.
2) الفراغ المعلوماتي..
الناس بعيدون عن مصادر رسمية عربية واضحة، فيعوّضون ذلك بمجموعات واتساب أو تبلغرام.
3) الحاجة لدراما جماعية..
نميل كبشر لصناعة قصص مشتركة تمنحنا شعورًا بالانتماء حتى وان كانت مبنية على كذب.
خلف الضباب، وخلف المطر، لا تخبرنا المدن عن حقيقتها، بل تكشف لنا عن حقيقتنا نحن.
اليوميات ليست عن المشي في شارع، أو عن شراء شاي، أو عن برد مفاجئ.
اليوميات مرآة تعكس ما الذي يثير مخاوفنا، وما الذي يطمئننا، وما الذي نصدّقه دون تمحيص.
ولهذا، عندما يصلني خبر كاذب في مانشستر، أعود دائمًا إلى الشوارع التي تعرفني:
إلى المطر الذي يقول الحقيقة دون أن يتكلم..
وإلى نفسي قبل أن أعود إلى المصادر.
إنها يومياتي في مانشستر ليست مجرد حكاية، بل مفتاحًا لقراءة عالم كامل ينسج القصص من اللاشيء.