جانبي فروقة
في عالمنا المتسارع اليوم ينتابنا شعور مزدوج تجاه التكنولوجيا فتارة نشعر أنها عدّاء أولمبي يركض بوتيرة أسرع من قدرتنا على اللحاق به وتارة أخرى نشعر أنها قطار فائق السرعة يتجه نحو مستقبل ضبابي لا نعرف إن كنا قد حزمنا الحقائب المناسبة له أم لا، لكن ما يحدث اليوم في أروقة مختبرات وادي السيليكون، ومراكز البيانات حول العالم يؤكد حقيقة واحدة وهي أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد «تطور تقني» أو موجة عابرة بل هو تحول حضاري عميق يعيد صياغة العقد الاجتماعي وعلاقتنا بالعمل والحياة والاقتصاد وحتى تعريفنا للمعرفة البشرية.
قبل سنوات قليلة، وتحديداً مع الانفجار المدوي لإطلاق (Chat GPT)، انحصر فهم العالم للذكاء الاصطناعي في زاوية واحدة: «النموذج اللغوي الضخم» (LLM) حيث تخيلنا عقلاً إلكترونيًا هائلاً في السحابة يستطيع الكتابة والتحليل ونظم الشعر وكتابة الأكواد البرمجية ولكن وكعادة التكنولوجيا كان هذا الإدراك مجرد رأس جبل الجليد واليوم تغير المشهد بسرعة مذهلة وبتنا لا نتحدث عن ثورة واحدة بل نحن أمام ثلاث ثورات متوازية تعمل بتناغم دقيق لصناعة ما بات يعرف بـ «اقتصاد الذكاء» (The Intelligence Economy) فبعد أن كنا نعد البيانات هي الذهب الجديد صار اقتصاد الذكاء هو بلاتينيوم العصر.
إن «اقتصاد الذكاء» هو نظام اقتصادي جديد كلياً لا يعتمد على استخراج النفط كما في القرن العشرين ولا على خطوط التجميع الصناعية ولا حتى على مجرد «جمع البيانات» كما كان الحال في العقد الماضي. إنه اقتصاد يعتمد على القدرة على تحويل كل شكل من أشكال المعرفة والبيانات الخام إلى «قيمة» و»قرار» و»فعل». نحن نقف اليوم على عتبة عصر لا تقل أهميته عن اكتشاف الكهرباء أو ظهور الإنترنت، حيث يصبح «الذكاء» سلعة (Utility) متاحة كالكهرباء والماء، تتدفق في عروق كل مؤسسة وكل جهاز.
لم يعد الحديث عن الذكاء الاصطناعي ترفاً معرفياً أو نقاشاً أكاديمياً في الأبراج العاجية بل أصبح «أكسجين» الأعمال اليومية حيث أنه يتسلل بصمت وفاعلية إلى كل قطاع اقتصادي وكل مؤسسة وكل هاتف ذكي ولفهم هذا المشهد المعقد يجب أن ندرك أننا ننتقل من مرحلة «النموذج الواحد للجميع» إلى مرحلة «التخصص الدقيق» عبر ثلاثة مسارات رئيسة:
أولاً: ثورة النماذج الصغيرة (SLMs) حيث يصير الذكاء في جيبك فما يدهش الخبراء اليوم هو حقيقة أن التكنولوجيا «الأكبر» ليست دائماً هي «الأكثر تأثيراً». تماماً كما أن جملة قصيرة صادقة قد تغير حياة إنسان أكثر من كتاب كامل، فإن النماذج اللغوية الصغيرة (Small Language Models - SLMs) قد تغير مسار مؤسسات ودول.
تمثل النماذج الصغيرة (SLMs) ذكاءً «رشيقاً»، خفيف الوزن ومدرباً بكفاءة عالية على بيانات دقيقة ومحددة وتكمن عبقرية هذه النماذج في قدرتها على العمل محلياً (On-Device) دون الحاجة لاتصال دائم بخوادم السحابة (Cloud) وهذا يعني خصوصية مطلقة حيث إن بياناتك لا تغادر جهازك وتأمن سرعة استجابة فائقة حيث إن اتخاذ القرارات يتم في أجزاء من الثانية وتؤمن كفاءة في استهلاك الطاقة وهو عامل حاسم في ظل المخاوف البيئية من استهلاك مراكز البيانات للطاقة. ونجد تطبيقات واقعية لهذه الثورة الصامتة على سبيل المثال لا الحصر في شركات الطيران العالمية حيث تستخدم نماذج SLM مدمجة في أنظمة الطائرات لتحليل آلاف الإشارات الحسية وتقليل زمن التأخير عبر التنبؤ بالأعطال الميكانيكية الطفيفة أثناء الرحلة. وفي قطاع الطاقة حيث تعتمد منصات الحفر البحرية على هذه النماذج لاتخاذ قرارات فورية دون انتظار تحليل البيانات في مقر الشركة الرئيس. أما في المستشفيات فتعمل هذه النماذج داخل الأجهزة الطبية لتحليل بيانات المرضى الحساسة دون المساس بخصوصيتهم أو تعريضها لمخاطر الاختراق السحابي. إنه ذكاء أقرب للواقع وأقرب للبشر وأقرب للمؤسسات التي تبحث عن «حلول عملية» لا «عروض تقنية».
ثانياً: النماذج الضخمة (LLMs) والتي تعد المحرك المعرفي العام فعلى الجانب الآخر لا يزال «العملاق» حاضراً وبقوة. تمثل النماذج اللغوية الضخمة (Large Language Models - LLMs) «الموسوعة» أو العقل الإستراتيجي الذي يمتلك رؤية بانورامية للعالم إنه النموذج الذي يكتب ويترجم بطلاقة ويحلل السياقات المعقدة ويستنتج ويطور البرمجيات ويحاكي الشخصيات التاريخية والأدبية. لكن وكما يعلمنا منطق التخصص فإن هذا النموذج وحده لا يكفي ليس لأنه ضعيف بل لأنه عام تماماً كما لا يمكن لطبيب عام مهما بلغت براعته أن يحل محل جراح قلب دقيق في غرفة العمليات فلا يمكن لنموذج ضخم مدرب على نصوص الإنترنت كلها أن يحل محل نموذج متخصص في القوانين الضريبية المحلية أو هندسة الجينات ورغم ذلك، تبقى النماذج الضخمة (LLMs) هي المحرك الأساسي للبحث والتطوير وهي البوابة التي تعطينا «الذكاء الواسع» والقدرة على الإبداع المفتوح وستظل لسنوات قادمة هي العمود الفقري الذي تتفرع منه التطبيقات الأخرى.
ثالثاً: النماذج متعددة الوسائط (MLMs Multimodal Language Models -) عندما يبصر الذكاء، حيث تعد الثورة الأكثر إثارة للرهبة والإعجاب معاً وهذه النقلة النوعية منحت الذكاء الاصطناعي «حواساً» رقمية لأول مرة في التاريخ لم يعد الذكاء محبوساً في سجن النصوص والأرقام بل بات «يرى» و»يسمع» و»يتكلم» و»يستشعر» هذا التطور يعني أن الذكاء الاصطناعي بات يفهم الواقع الفيزيائي كما يفهمه البشر بل وبدقة تتفوق عليهم أحياناً والتطبيقات هنا تتجاوز الخيال ففي مجال الزراعة والبيئة هناك نماذج (MLM) تحلل صور الأقمار الصناعية وتربطها ببيانات الطقس وتقارير التربة المكتوبة لتقييم حالة المحاصيل في دولة كاملة، متنبئة بالمجاعات أو الفوائض قبل حدوثها بأشهر. وفي المجال الطبي بات النموذج يقرأ صور الأشعة السينية، ويستمع لدقات القلب ويقرأ التاريخ المرضي للمريض، ليقدم تشخيصاً متكاملاً (Holistic Diagnosis) يعجز عنه الطبيب البشري في وقت قياسي وفي المدن الذكية فإن كاميرات الشوارع لم تعد مجرد أجهزة تسجيل، بل «عيون ذكية» تحلل حركة المرور وتتوقع الحوادث قبل وقوعها بناءً على سلوك المركبات وتدير إشارات المرور لفك الاختناقات لحظياً. إن نموذج (MLM) ليس مجرد خوارزمية بل هو قفزة هائلة نحو ما يسميه العلماء «الذكاء الاصطناعي العام» (AGI)، حيث القدرة على الفهم المتكامل للعالم.
إن الانتقال من الاقتصاد الزراعي إلى الصناعي ثم الرقمي، والآن إلى «اقتصاد الذكاء» بات يفرض قواعد لعبة جديدة تماماً حيث لم يعد السؤال «هل نستخدم الذكاء الاصطناعي؟» بل «أي نوع من الذكاء نستخدم؟ ومتى؟» وصانع القرار الناجح، سواء كان رئيساً تنفيذياً لشركة أو وزيراً في حكومة يجب أن يمتلك «الحكمة الرقمية» ليعرف متى يستخدم (SLM) لضغط التكاليف وضمان الخصوصية والعمل في البيئات النائية، ومتى يلجأ إلى (LLM) للحصول على أفكار إبداعية وحلول إستراتيجية واسعة، ومتى يستثمر في (MLM) لبناء أنظمة تفاعلية تفهم المحيط البصري والسمعي. فهذه القرارات لم تعد «قرارات تقنية» تترك لمديري تكنولوجيا المعلومات، بل هي قرارات اقتصادية وسيادية من الطراز الأول.
الاقتصاد القادم لن يدار برأس المال النقدي فحسب، بل بالقدرة على أولاً اختيار النموذج المناسب للمهمة المناسبة (Model Selection) وثانياً امتلاك البيانات عالية الجودة لتدريب هذه النماذج (Data Sovereignty) وثالثا بناء البنية التحتية الحاسوبية القادرة على تشغيل هذه العقول (Compute Power).
في هذا السياق العالمي المحتدم، نرى تحولاً لافتاً في المنطقة العربية فدول مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة لم تعد تكتفي بمقعد المتفرج أو المستهلك للتقنية فقد أدركت قيادات هذه الدول مبكراً أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد «تطبيق» يمكن شراؤه لاحقاً، بل هو بنية تحتية حتمية للأمن القومي والنمو الاقتصادي تماماً كالطرق والمطارات ومحطات الطاقة. ونرى ذلك جلياً في استثمارات ضخمة في البنية التحتية لمراكز البيانات، وتأسيس هيئات سيادية للبيانات والذكاء الاصطناعي وإطلاق نماذج لغوية عربية ضخمة وهذه التحركات تؤكد وعياً إستراتيجياً بأن «السيادة الرقمية» في القرن الحادي والعشرين تعني القدرة على بناء وتدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بك، بما يتوافق مع ثقافتك، ولغتك، ومصالحك الوطنية.
نحن لا نشهد مجرد تحديث برمجي، بل نشهد ولادة نظام تشغيل جديد لكوكب الأرض. وفي هذا النظام، سيكون الفائزون هم من يدركون أن الذكاء الاصطناعي ليس عصا سحرية واحدة، بل هو صندوق أدوات متنوع ومتطور، يتطلب مهارة في الاختيار، وجرأة في التنفيذ، وحكمة في التوجيه نحو خدمة الإنسان.