خالد محمد الدوس
الشاعر والأديب العباسي الشهير (علي ابن الجهم القرشي) المولود في بغداد عام 188هـ، والمتوفي عام 249هـ، وهو سليل لأسرة عربية متحدرة من قريش أكسبته فصاحة اللسان وأحاطت موهبته الشعرية بالرزانة والقوة.. حيث عاصر زمن الخليفة العباسي «المتوكل على الله».
وعاش في (البيئة البدوية) والتي أكسبته تحمل الخشونة والفقر وصراحة البادية، وبالتالي كان بدوياً جافاً قاسياً تأثرت ألفاظه ولغته الشعرية ببيئته الصحراوية التي عاش فيها على مضض..!! وكان يشاهد في حياته اليومية الكلاب والاغنام والجمال في البادية..!! ولظروف العيش القاسية التي عانى منها هذا الشاعر الفحل أشار عليه البعض أن يذهب للخليفة العباسي «المتوكل على الله» ويلقي عليه قصيدة مدح ويعطى المال الذي يّسد حاله ويشبع احتياجاته المعيشية.
وحين قصد قصر الخليفة المتوكل في بغداد لينشده على عادة الشعراء في تلك الحقبة الماضية دخل على الخليفة وكان معروفا عند المتوكل بقوة وبلاغة شعره أنشده قصيدته وهي تحمل خشونة وصراحة البادية.. يصف جفاف ووعورة الصحراء وقسوة العيش فيها وتأثيرها على اللغة الشعرية التي قال فيها:
«أَنْتَ كَالْكَلْبِ فِي حِفْظِكَ لِلْوَدِّ
وَكَالتَّيْسِ فِي قِرَاعِ الْخُطُوبِ»
«أَنْتَ كَالدَّلْوِ، لاَ عَدِمْتُكَ دَلْواً
مِنْ كِبَارِ الدَّلَا كَثِيرَ الذُّنُوبِ»..
الى أخر القصيدة..!!
لم يغضب الخليفة، لأن ابن الجهم لم يقصد إلا خيراً..! وأدرك أن سبب هذه التشبيهات الغريبة والعبارات الخارجة عن النص.. (مثل الكلب والتيس والدلو) هو بيئته البدوية الأولى..!! فأمر بإسكانه ونقله للعيش في بستان على شاطئ نهر دجلة في بغداد، حيث الحدائق والبساتين والماء وندوات الأدب والعلم والثقافة.
وبعد (ستة أشهر) من العيش في هذه البيئة الجديدة الخضراء المخضرة، التي لم يرى فيها الرمال والحر والمعاناة وبعض الحيوانات التي صّورها في قالبه الشعري الوصفي..!! بل رأى الخضرة والماء والجمال والظلال.. فعاد الشاعر البدوي إلى قصر الخليفة مجدداً وأنشده قصيدته الغزلية الرقيقة الشهيرة:
«عُيُونُ الْمَهَا بَيْنَ الرُّصَافَةِ وَالْجِسْرِ
جَلَبْنَ الْهَوَى مِنْ حَيْثُ أَدْرِي وَلا أَدْرِي»
إلى آخر القصيدة.
فقال الخليفة ومن شدة أعجابه بالقصيدة الخالدة: «أما خشيت أن تذوب رقة..!». لقد غيرت البيئة الحضرية لنهر دجلة وجمالياتها لغته الشعرية تمامًا، وبالتالي وصفت هذه القصيدة من أجمل القصائد في العصر العباسي.. برسالتها الواضحة وروعتها الأدبية عن تأثير البيئة على الفكر الإنساني والبناء السلوكي والاتجاه القيمي..
تأتي قصة انتقال (علي بن الجهم) من البادية إلى بغداد وتغير لغته الشعرية.. قصة واقعية رائعة تشرح فكرة تأثير البيئة، وإن التغير في لغته الشعرية كان على الأرجح تدرجياً نتج عن نضجه الفني واختلاطه بحياة القصر والمدينة، والترف.
هذه الملاحظة للخليفة كانت في غاية الذكاء والدقة والحدس الاجتماعي، تلامس جوهراً حقيقياً في قصة علي بن الجهم مع (المتوكل على الله).. ومدى «تأثير البيئة على التشكيل الثقافي واللغوي والبناء الفكري».. من خلال التجربة الاجتماعية.. وهي عملية النقل من بيئة مكانية إلى بيئة مختلفة جذرياً، خاصة وأن انتقاله من البيئة الأصلية.. وهي الصحراء، حيث البيئة القاسية، الحياة القبلية، واللغة المباشرة الخشنة.. إلى البيئة الجديدة.. بستان في بغداد على نهر دجلة، حيث البيئة المروية المخضرة، حاضرة المدينة، وثقافة البلاط المتأنقة.. وبالتالي عاش (ابن الجهم) في هذه البيئة الجديدة.. مستغرباً.. منبهراً.. متأثراً بشكل عميق مما غير مسار شعره، وأضاف إليه بــُعداً جمالياً جديدة عن حياته الصحراوية السابقة وإرهاصاتها..!
عملية النقل هذه هي في جوهرها تغيير للمتغير المستقل في معادلة تشكيل الشخصية (البيئة)، لمراقبة تأثيره على المتغير التابع (الشعر والسلوك). النتيجة.. تحول فني ولغوي واضح قبل التغيير (شعر البداوة).. هذه الصورة مباشرة، خشنة، مستمدة من عالم الصحراء (التيس، القرع - الكلب)..!!
إلى الجديدة، المها، النهر، العروس. لقد أصبحت لغته أكثر تأنقاً وتصويراً و»حضارة» في الالفاظ.
ومن ناحية الممارسة والحدس.. تصرف (المتوكل على الله) بذكاء اجتماعي حاد. لقد أدرك «حدسياً» أن بيئة الشاعر البدوية هي مصدر خشونته وأسلوبه المباشر. وافترض أن نقله إلى بيئة أكثر رقة وتكلفاً سيؤدي إلى تليين شعره وأسلوبه. كانت فرضيته صحيحة، والتجربة نجحت.. هذا فهم عملي لتأثير البيئة على المنتج الثقافي واللغوي.. لا، من ناحية العلم والمنهج.. الخليفة لم يقم بهذا كنظرية علمية أو لخدمة المعرفة..! كان هدفاً وظيفياً بحتاً، ترويض شاعر متمرد، وتطويعه ليكون شاعر بلاط مقبولاً، ينتج شعراً يليق بجماليات العاصمة ومكانتها الأدبية والعلمية والثقافية. لم يسجل ملاحظاته أو يحلل النتائج في إطار (نظري) بل في سياق علمي رصين..!.
قصة الشاعر الفحل «علي بن الجهم» الذي من صفاته الجزالة وقوة الأسلوب، والصدق في التعبير، والجراءة والشجاعة والوفاء.. هي أحد أقدم الشواهد التاريخية المسجلة على صحة فرضية أساسية في (علم اجتماع البيئة)، وهي.. أن البيئة المادية والاجتماعية تشكل اللغة، وتؤثر على الفكر والقيم والسلوك..
وبالطبع، على ضوء هذه الحادثة التاريخية أظهر الخليفة (المتوكل على الله)، فهماً عملياً -ربما بشكل بديهي- لأحد أهم مبادئ علم اجتماع البيئة ..وهو أن البيئة ليست مجرد اطاراً للحياة.. بل هي عامل فاعل ومؤثراً في تشكيل الهوية والعلاقات الاجتماعية والإبداع الفني من خلال نقله (لعلي بن الجهم) من بيئته البدوية إلى بيئة بغداد الحضرية، أجرى -دون قصد- تجربة عملية أظهرت بشكل جليّ تأثير تغير البيئة على التحول الثقافي واللغوي للفرد، مما يجعل هذه الحالة نموذجاً تاريخياً رائداً يؤكد على المبادئ التي يقوم عليها (علم اجتماع البيئة) وولادته كعلم (خصب) له نظرياته وأبحاثه ومقوماته العلمية.