د. محمد بن إبراهيم الملحم
لتكتمل الصورة حول قضية التنمر الجسدي والتي وضحت فيها سابقا أهمية أن يتم تعليم الطفل التصرف الصحيح نحو المتنمر عليه جسديا، فإني أود اليوم أن ألقي الضوء على الجانب الآخر وهو الطفل أو الطالب المتنمر نفسه (أو الطالبة المتنمرة) فكيف يتصرف الأهل إذا علموا أن ولدهم أو ابنتهم يمارسون التنمر في المدرسة!
وحديثي جعلته للوالدين لا للمدرسة لأن البيت غالبا هو المسئول عن ظهور صفة التنمر، وهناك دراسات عربية متعدّدة - في السعودية والكويت والعراق وفلسطين- تُجمِع على أن العوامل الأسرية تأتي في مقدّمة أسباب التنمّر المدرسي ويعود ذلك إلى عدة مصادر أولها اتباع البيت أساليب تربية قاسية (عقاب بدني، إهانة، صراخ دائم) أو ربما العكس أيضا حيث التساهل المفرط وغياب حدود واضحة للسلوك يجعل الطفل «يجرّب» السيطرة على الآخرين، وثاني الأسباب التفكك الأسري، أو النزاعات الزوجية المتكررة أمام الأبناء، وثالثها نماذج عنف متكررة في البيت (الطفل نفسه قد يكون ضحية عنف، فيعيد إنتاجه على أقرانه)، ورابعها ضعف التواصل العاطفي (غياب الاحتواء والإنصات والدفء)، وقد أشارت أبحاث عربية بوضوح إلى أن كثيرًا من المتنمّرين شهدوا العنف في أسرهم أو أحيائهم، أو يعيشون في بيئات تعاني من ضغوط اقتصادية واجتماعية حادة، مما يزيد من قابلية ظهور السلوك العدواني في المدرسة.
ولهذا وحيث أن البيت المتهم الأول في أسباب العنف فإنه يملك أيضا سبل المعالجة وبعدة طرق سوف أحاول توضيحها في هذه المقالة العابرة لموضوع شائك كهذا يحتاج أكبر من هذه المساحة ولكنها مشاركة لدعم أولياء الأمور المهتمين بجرعة مركزة من التثقيف المهم في هذا المجال، فأقول أولا إنه عندما يسمع وليّ الأمر جملة: «ابنك يتنمّر على زملائه» تكون الصدمة الأولى عادةً دفاعًا أو إنكارًا قائلا: «ابني لا يفعل ذلك»، أو تحويل اللوم إلى المدرسة أو إلى الطلاب الآخرين. وهذه أول عثرة في طريق علاج التنمر، فبدون الاعتراف بالمشكلة (أي مشكلة) فإنه لا يمكن حلها!
وعند تفهم الوالدين (أو إقناعهما) أن الطفل مارس التنمر فعلا فإن التصرف المطلوب منهما كما تشير الأدبيات التربوية الحديثةهو التعامل الهادئ والمسؤول مع هذه الحالة والتي قد تكون نقطة تحوّل في بناء شخصية الابن أكثر من كونها مجرّد أزمة عابرة. ويجب أن يعلم ولي الأمر (وخاصة فئة معينة منهم) أن التنمّر ليس «قوة شخصية»، بل هو نمط متكرر من الإيذاء يترك آثارًا نفسية وتعليمية عميقة على الطرفين المتنمِّر والمتنمَّر عليه؛ وتُظهر تقارير دولية مثل تقرير اليونيسف «Behind the Numbers» أن العنف المدرسي - ومنه التنمر - يرتبط بتدهور الصحة النفسية وضعف الانتماء للمدرسة.
وفي العالم العربي، أظهرت مراجعة بحثية عن التنمر المدرسي أن نسب الانتشار في بعض الدول العربية تراوحت في عينات متوسطة العمر مع ميل أوضح لدى الذكور لممارسة السلوك التنمّري.
وإليك ما تقوله الدراسات عن أسباب تحوّل الأبناء إلى متنمّرين خلافا للأسباب الناتجة من البيت، وهي: أولا مشكلات في خصائص الفرد فقد أشارت الدراسات النفسية إلى أن المتنمّرين ليسوا دائمًا «أقوياء» من الداخل؛ بل قد تجتمع فيهم خصلة أو أكثر مما يلي: ضعف في تنظيم الانفعالات وضبط الغضب، انخفاض التعاطف مع مشاعر الآخرين، تاريخ سابق كضحية تنمر؛ فيتحوّل الضحية في مرحلة لاحقة إلى متنمّر، رغبة في تحقيق مكانة وسط الرفاق بأي ثمن، أو شعور بالنقص (الأكاديمي أو الاجتماعي مثلا) والتعويض عنه عبر السيطرة، وفي بعض الدراسات الدولية والعربية، وُجد ارتباط بين المشكلات النفسية (القلق، الاكتئاب، ضعف تقدير الذات) وبين زيادة احتمال ممارسة التنمّر أو التنمّر الإلكتروني. وثاني الأسباب هو مصادفة أن المدرسة يتوفر فيها مناخ يشجّع على ذلك وذلك مثل ضعف الانضباط المدرسي، وغياب الرقابة في الساحات والممرات، وعدم توضيح القواعد والقوانين أو تطبيقها بحزم وصرامة، وأشارت تحليلات دولية إلى أن المناخ المدرسي السلبي (شعور الطلاب بعدم العدالة، ضعف العلاقة مع المعلمين، غياب الانتماء) يرتبط بارتفاع معدلات التنمّر، أما ثالث الأسباب فهو تشجيع جماعة الرفاق السيئة حيث قد يمارس الطالب التنمّر بحثًا عن قبول مجموعة رفاق تمجّد السلوك العدواني أو تعتبره «فكاهة» أو «شجاعة» ويظهر هذا بشكل خاص في المرحلة المتوسطة والثانوية وربما في الصفوف العليا من المرحلة الابتدائية.
وهنا نصل إلى السؤال المهم، وهو كيف يتصرّف وليّ الأمر عمليًا إذا اكتشف أن ابنه متنمّر؟ سأجيب عن ذلك في المقالة القادمة.