اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
وقد استمر الردع بشكله التقليدي المعروف الذي يستند إلى استخدام القوة ضد الخصم والانتصار عليه حتى ظهر السلاح النووي الذي غيَّر المعادلة الردعية واقتصرها على التلويح باستخدام الأسلحة النووية بالصيغة التي يفرضها الموقف الردعي والتعادل الإستراتيجي في المجال النووي وما يعنيه ذلك من ردع الحرب وليس خوضها.
وقبل أن يأخذ الردع النووي مكانه الصحيح وتكتمل أدواته ووسائله كانت ميزة الاحتكار النووي الأمريكي يقابلها التفوق التقليدي الذي يتمتع به الاتحاد السوفيتي، بوصف الاحتكار النووي بالنسبة لدول حلف الأطلسي يوفر لها ميزة ردع لكبح جماح أي مغامرة انتهازية يرتكبها حلف وارسو.
وبعد أن تمكَّن الاتحاد السوفيتي من حيازة أسلحة نووية ذات قدرات محدودة تدعم تفوقه التقليدي لجأ حلف الأطلسي إلى إعادة تكوين نفسه على المستوى التقليدي والنووي عن طريق اتخاذ بعض القرارات والتفكير في مداخل الإستراتيجية النووية وما تنطوي عليه من أعمال وقائية وردع مسبق.
ونظراً لأن الاتحاد السوفيتي تمكَّن من كسر الاحتكار النووي الأمريكي علاوة على التفوق الهائل في القوة التقليدية وما تخلل هذه المرحلة من التوترات السياسية بين الغرب والشرق حول المشكلة الألمانية في مرحلة من مراحل التصعيد النووي مما دفع أمريكا إلى اللجوء إلى إستراتيجية نووية جديدة ضمن إستراتيجية الردع وهي إستراتيجية الانتقام الجسيم الذي يعني التهديد بالرد بالأسلحة النووية الإستراتيجية بطريقة تأديبية على أي عدوان سوفيتي مهما كان محدوداً.
وفي ختام المراحل التي سبقت مرحلة الحرب الباردة وبالتحديد ما يُعرف بالمرحلة الرابعة، حيث حصل شبه توازن بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي في قوة الردع، إذ أصبح لدى الطرفين نسبة كبيرة من مخزون السلاح النووي وحشد لا يستهان به من الصواريخ الموجهة نحو أغراض محددة، وما أفضى إليه هذا الأمر من إعادة تشكيل الأوضاع النووية ووضع ميزان للاستقرار يقوم على أساس التهديدات النووية المتبادلة داخل إطار إستراتيجية الردع.
وفي هذه المرحلة استطاع الرئيس كندي التأثير على مجرى السياسة النووية الأمريكية من خلال الموازنة بين المطالب المتعارضة والرؤى المتناقضة وتعديل إستراتيجية الانتقام الجسيم إلى إستراتيجية الردع المتدرج أو ما يُعرف بإستراتيجية الرد المرن التي تتوفر لها القدرة على مواجهة التحديات المحتملة، وضرورة اتفاق الضربة المضادة مع طبيعة الصدام المحتمل.
ومن هذا المنطلق فإن رد فعل الرئيس كندي أثناء أزمة الصواريخ كان حازماً ومباشراً حيال دخول السوفيت في سباق مضاد للقوة وذلك بإقامة صواريخ متوسطة المدى في كوبا، حيث يعتبر هذا الرد الأمريكي المغلف بغلاف من انعقاد العزم على استخدام القوة أول قتال محتمل في الحرب النووية بين الشرق والغرب.
وفي هذا الموقف الذي يقف شاهداً على إقدام الأمريكان على المواجهة وإحجام السوفيت عن ذلك يؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي قد توصل كل منهما في المجال النووي إلى ما يمكن أن يطلق عليه قدرات قوية وقابلة للتصديق بالنسبة للضربة الثانية دون أن يمتلك أيٌ من الطرفين النسبة المقنعة من القوة المضادة للقوة.
وقد ترتب على توسع القوتين الأمريكية والسوفيتية في مجال بناء القوات الضاربة النووية وجود قوة منفصلة تحتل مستوى أدنى من سلم التصعيد يطلق عليها القوة المضادة للقوة، وهي إستراتيجية عسكرية تستخدم ضد أهداف القوة، معتمدة على درجة عالية من الدقة والرؤوس النووية الصغيرة ذات التكاليف العالية، في حين أن القوة الإستراتيجية النووية تستخدم ضد أهداف القيمة وتحتل الدرجة النهائية في سلم التصعيد.
ومن المعروف أن القوة الضاربة النووية لا يتوفر لديها قدرة دفاعية فهي سلاح هجومي، والإستراتيجية ضد القوة هي الإستراتيجية التي تهدف إلى تدمير أسلحة العدو الإستراتيجية خاصة تلك التي يمكن للعدو أن يستخدمها في الانتقام.
والإستراتيجية النووية تأسست على فكرة الردع النووي المتبادل ونتج عنها وضع إستراتيجي يُعرف باسم توازن الرعب النووي وقد استمد هذا الردع فعاليته من نجاح القوتين العظميين في تنمية قدراتهما النووية بشكل هائل والوصول بها إلى مستوى القدرة على التدمير بالضربة الثانية بعد أن كان جوهر الإستراتيجية قائماً على مبدأ القدرة على التدمير بالضربة الأولى.
وانطلاقاً من أن تساوي ميزان الردع يؤدي إلى الاستقرار النووي فإن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي بعد أن تمكنتا من بناء قوة ذات مصداقية حصل بينهما تعادل إستراتيجي يطلق عليه إستراتيجية الردع وهي التهديد بالانتقام ضد الهجوم النووي، مما يعني وجود قناعة مشتركة بين الطرفين بأن أي طرف يبدأ بتوجيه الضربة الأولى فإن الطرف الآخر لديه القدرة على توجيه الضربة الثانية.
وفي فترة الحرب الباردة سيطرت الثنائية القطبية الأمريكية والسوفيتية على الموقف وتجلَّت نظرية الردع النووي في مفهومها الجديد بين القوتين الأمريكية والسوفيتية، حيث أخذ الردع مكانه الذي يدعو إلى تجنب الحرب، بفضل القدرات الفعلية والأسلحة النووية الإستراتيجية بالنسبة للطرفين، وما تتصف به من المصداقية في التهديد والعقلانية في الردع لتفادي الحروب وتحول مفهوم الانتصار فيها إلى تجنب وقوعها.
وتجنب الدخول في حرب شاملة ذات تدمير متبادل تعتبر من أبرز العلامات الدالة على نجاح الردع النووي في فترة الحرب الباردة، حيث إن التهديدات النووية القابلة للتصديق ساهمت في تجنب الحروب وتوفير الأمن والاستقرار عن طريق فعالية الردع ومصداقيته.