م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - أي تحول بلا وعي مجتمعي متنور متطور حديث هو ضرب من الخيال والأحلام التي قد تؤدي إلى المزيد من التقهقر.. بشرط أن يكون هذا الوعي المجتمعي قائماً على حقوق المواطنة وليس حقوق الطائفة، قائماً على المصلحة الوطنية وليس المصلحة الفئوية، قائماً على النظر إلى المستقبل وليس الالتفات إلى الماضي، قائماً على علوم العصر وأدواته ومناهج تفكيره وليس علوم الماضي وأدواته ومناهج تفكيره..
بهذه المرتكزات سيتحقق التحول المجتمعي المأمول، التحول الذي يقود إلى الأمام، التحول الذي نتيجته النمو والتقدم والتطور والتحديث ومنافسة الأمم المتقدمة، وأن يكون لنا مكان بين الأمم المتمدنة المتحضرة.
2 - في القرن الثامن عشر كان التنوير في أوروبا مزدهراً، واستطاع أن يكون له وجوده وحضوره في الثقافة الجماهيرية، ولم يعد دعاته تحت التهديد بالقتل أو السجن كما كان يحصل لهم في القرون السابقة.. فقد خَفَّت تلك الأحكام وتم الاكتفاء بتلويث سمعتهم ومضايقتهم في أعمالهم وتأليب الحكومة عليهم، وقد يصل الأمر إلى تهجيرهم للعيش في هولندا أو ألمانيا أو بريطانيا الذين لا يدينون بالمذهب الكاثوليكي في أوروبا.
3 - حين قامت الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، تم رفع يد كهان الكنيسة عن التأثير والتوجيه والتأويل والتشريع وإجازة ما يكون وما لا يكون.. الثورة الفرنسية أيقظت الشعوب الأوروبية كافة، ورغم كل المآسي التي اقترفتها إلا أنها تمخضت في الأخير عن إعلان حقوق الإنسان والمساواة والإخاء، ولم تعد فرنسا للكاثوليك فقط بل لكل الفرنسيين، وتم الإعلاء من معنى وقيمة المواطنة والوطنية مقابل المذهبية الدينية.
4 - إذا كان الذين أشعلوا فتيل الثورة الفرنسية عام (1789م) هم المفكرون والفلاسفة، فإن الذين نفذوها هم الغوغاء والهمج.. ولم يكن من الممكن لهؤلاء المفكرين أن يشعلوا الثورة لو لم تكن الأرضية ممهدة، فمن كان يجرؤ على التصادم مع أفكار وأنظمة وقوانين مصدرها البابوية الكاثوليكية في (روما) الذي امتدت هيمنتهم وتأثيرهم لأكثر من ألف عام.. التنوير الذي سبق الثورة بمائتي عام هو الذي جرأ الثوار أن يعلنوا أن مصدر التشريع الرئيسي والقوانين الجديدة هم فلاسفة فرنسا العظام مثل «روسو، ومنتسكيو» وليس كهان الكنيسة وبابا روما.. بمعنى أنه إذا كان فكر التنوير هو الذي مهد لقيام الثورة فإن الثورة هي التي صنعت لفكر التنوير وجوده وتأثيره، وفرضت لمفكري التنوير حضورهم وتأثيرهم.. لقد رفع الثوار على رؤوسهم كتاب (العقد الاجتماعي) لمؤلفه «جان جاك روسو» على أساس أنه إنجيل الثورة، ومنه استحدثت الثورة روح أهم إعلان إنساني وهو إعلان حقوق الإنسان.
5 - كثير من الدول العربية، لم تشهد طفرة فكرية تنويرية حقيقية بعد.. ولذلك مبرراته التي منها القمع السياسي والديني، والانغلاق المجتمعي، ومنها قضية فلسطين التي اتخذها كل أفاق أثيم وسيلة لركوب موجة تحرير القدس التي لا بد أن تمر بعواصم الدول العربية التي يعاديها أولاً.. إضافة إلى أنه تم تجنيد المثقفين والمفكرين في حروب كل قطر عربي ضد الآخر، فنجحوا بامتياز في زرع الكراهية بين العرب واحتقارهم لبعض، وأصبحت العلاقة بين المفكرين العرب علاقة متوترة تآمرية اتهامية.. فالحرب الثقافية لم تعد فقط بين المتدين وغير المتدين، ولا المسلم وغير المسلم، ولا الشيعي والسني، بل زادوها لتكون بين العربي والعربي كل حسب القطر الذي ينتمي إليه.
6 - الثورة الفرنسية في حقيقتها لم تكن ضد «لويس السادس عشر» بل ضد الكنيسة الكاثوليكية، كانت ضد ظلامية العصور الوسطى التي تقودها الكنيسة، كانت محاولة للانعتاق من أَسْر الكهان الذي امتد لقرون حتى فقدوا البوصلة، فلم يعودوا يعرفون أين طريق الدنيا من طريق الآخرة.