رسيني الرسيني
في عالم الأعمال والاستشارات، يغدو النظر في التجارب الدولية أشبه بفتح نافذة على حدائق بعيدة؛ نستلهم منها ألوانًا وأفكارًا وتنسيقًا جديدًا. فالخبراء عادةً يعتمدون على الدراسات المقارنة للوصول إلى أفضل الممارسات المهنية حول العالم، وهو توجه يفتح الآفاق لفهم آلية عمل الدول المتقدمة. غير أن الاتكاء الكامل على هذه النماذج، دون مساءلة مدى توافقها مع ظروف القطاع ذاته، هو أمر يستحق التوقف عنده. فلكل دولة وقطاع بيئته الخاصة، ودرجة نضجه، ومرحلة تطوره التي قد تجعل ما يناسب الآخرين غير مناسب لنا، مهما بدا براقًا أو ناجحًا في مكان آخر.
على سبيل المثال، عند النظر إلى مفاهيم تتعلق بدرجة القرابة وعوارض الاستقلالية في بعض الأنظمة، نجد أن كثيرًا من الجهات تكتفي بالدرجة الأولى من القرابة، وأحيانًا تضيف الثانية. وهذا يعني عمليًا أن العم وأبناءه، والخال وأبناءه، لا يُنظر إليهم كعائق أمام الاستقلالية. لكن في مجتمع يتسم بروابط أسرية متشابكة كالمجتمع السعودي، تصبح هذه المقاربة غير واقعية. فالتأثير العائلي يمتد بطبيعته إلى دوائر أوسع، مما يجعل نسخ النموذج البريطاني أو الأمريكي - فقط لأنه «أبرز ممارسة» - أمرًا غير منطقي. فالممارسات تُبنى على سياقات اجتماعية، وحين تتغير السياقات تتغير المعايير بالضرورة.
ومن الأمور التي تدعو للاعتزاز اليوم أن المملكة أصبحت من يغيّر مفاهيم العالم، لا من ينتظر تحرك الآخرين ليحذو حذوهم. ويبرز ذلك جليًا في مسار تطوير الخدمات الحكومية، فتطبيق مثل «أبشر» و»توكلنا» لم يعودا مجرد تطبيقات، بل أيقونات عالمية في الابتكار الحكومي. وأجزم لو أن العاملين اكتفوا بتقليد أبرز الممارسات العالمية، لما رأينا هذه النماذج الفريدة التي تجاوزت حدود التقليد إلى الإبداع. فالعقول المبتكرة لا تكتفي بالنظر إلى ما هو موجود، بل تتطلع إلى ما يمكن أن يكون، وتعيد تشكيل الواقع بما يتناسب مع حاجات مجتمعها ورؤيتها للمستقبل.
أخيرًا، مما لا شك فيه، أن الاطلاع على أبرز الممارسات العالمية أمر مهم لمعرفة موقعنا على خريطة التطور وإدراك الفجوات والمساحات الممكن تحسينها. إلا أن اتخاذ القرارات بناءً عليها فقط يعد أمرًا غير صحي؛ فالتقليد غير المشروط يضعف الهوية المهنية ويُفقد النظام توازنه. كما أن «التبضع» من هذه الممارسات، بأخذ بعضها وترك بعضها الآخر، يخلق منظومة غير منسجمة. فالأصل أن يُبنى النظام بشكل متكامل ومتناسق، بحيث تدعم عناصره بعضها بعضاً، ويستجيب لبيئته المحلية قبل أي شيء آخر. بهذه الطريقة فقط يمكن تحقيق التطور الحقيقي، لا بمجرد استنساخ تجارب بعيدة.
حسنًا، ثم ماذا؟
الشركات الاستشارية المتميزة تدرك أن نجاحها يرتبط بقدرتها على الاستفادة من الخبرات المحلية في البلد الذي تعمل فيه، لفهم ثقافة السوق وسلوكياته، وتصميم حلول تنسجم مع طبيعته بدل استنساخ نماذج خارجية.