عبدالوهاب الفايز
قبل ست سنوات بالضبط، في نوفمبر 2019، وقف صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سلمان؛ وزير الطاقة، أمام الإعلام ليعلن بدء أكبر تحول هيكلي في تاريخ قطاع الكهرباء السعودي، وترك جملة واحدة لا تزال تتردد حتى اليوم: «حماية المستهلك ستكون في صدارة أولوياتنا، ولن نسمح للإصلاحات أن تتم على حسابه».
وخدمات المستهلكين للكهرباء لم تعد، كما نتصورها سابقا، مسؤولية شركة الكهرباء، بل تقدمها الآن منظومة الطاقة بكل أنواعها، الشمسية، وطاقة الرياح، وحتى الطاقة النووية القادمة بحول الله..
وبقية مزيج الطاقة، والهدف الاستراتيجي الكبير هو: الوصول إلى أمن الطاقة المستدام. كذلك تحولت خدمة المستهلك إلى منظومة عمل متكاملة تبدّا من سرعة إيصال الخدمة وتوفيرها بالجودة المطلوبة للقطع السكنية ومختلف الأنشطة التجارية والصناعية والخدمية. وكذلك الحماية تمتد إلى دعم رفع كفاءة شركات التوليد والنقل والصيانة ودعمها وتمكينها حتى تحقق كفاءة في التشغيل واستقرار عوائد الاستثمار، وهذا يخدم مستهلك الكهرباء النهائي.
ايضاً الاهتمام بالمستهلكين تفرضه حقائق مستجده، فالآن بلادنا تتحرك إلى حقبة (استثمار الكهرباء) بعد ان أصبحت مصدر الثروة القادمة، مع دخول الاستثمارات في المشاريع الرأسمالية الكبرى لتأمين الطلب لمراكز البيانات العملاقة لشركات الذكاء الاصطناعي، ومناجم توليد العملات الرقمية. فالمنظومة في المملكة تتجهز لتكون مصدر دخل قومي بعد ان ظلت مركز تكلفه مالية كبيرة على مدى عقود.
وثورة الذكاء الاصطناعي تقدم فرصًا استثمارية لقطاع الطاقة السعودي حيث تمثل فرصة استثمارية هائلة للقطاع، يتوقع أن يصل الطلب العالمي على الكهرباء، من مراكز البيانات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، إلى 945 تيراواط ساعة (TWh) بحلول 2030، وهو ما يعادل الاستهلاك اليابان كاملاً اليوم. هذا الطلب يدفع نحو استثمارات عالمية تصل إلى تريليونات الدولارات في توليد الطاقة والبنية التحتية.
بلادنا لديها مميزات تنافسية فريدة تجعلها في صدارة الدول المستفيدة: طاقة وفيرة (خاصة المتجددة)، أراض واسعة، واستثمارات حكومية نوعية. هذا يحول المملكة من مصدر نفطي تقليدي إلى مركز طاقة عالمي لـ «تصدير الحوسبة»، مع إمكانية إضافة 235.2 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي من قطاع الذكاء الاصطناعي بحلول 2030، بنسبة 12.4 % من الاقتصاد الكلي.
التجارب العالمية تقول إن 70 % من برامج تطوير وخصخصة مشاريع الكهرباء إما تفشل، أو تثير غضب المستهلك بسبب غياب منظم قوي وحماية حقيقية للمستهلك. السعودية اختارت الطريق السليم: تم بناء وتمكين المنظم أولاً (وهو هنا الهيئة السعودية لتنظيم الكهرباء)، ثم طبقت نموذج حماية المستهلك. والنتيجة أن المملكة تملك اليوم واحداً من أفضل أنظمة تنظيم الكهرباء في العالم من حيث استقلالية القرار وقوة التنفيذ، وهو ما يُطمئن الشركات العالمية الكبرى التي ترغب في الدخول إلى أسواق تحكمها الشفافية والحوكمة ووضوح الرؤية.
في قطاع الكهرباء ثمة إنجازات إيجابية تحققت لصالح المستهلكين. منذ العام 2019 وحتى الآن، قفزت قيمة التعويضات المدفوعة لمستهلكين الكهرباء من 2.5 مليون ريال سنوياً إلى أكثر من 310 ملايين ريال في 2025، وأُطلقت منصة شكاوى إلكترونية تحل 85 % من الشكاوى خلال عشرة أيام كحد أقصى، وتولت الهيئة تطبيق غرامات على مقدمي الخدمة تجاوزت 400 مليون ريال لصالح المستهلك منذ 2021 تذهب كاملة إلى صندوق تعويض المستهلكين.
النموذج الجديد الذي تم إطلاقه يضع المستهلك في مركز المنظومة بثلاث طرق:
مراقبة استباقية تحلل البيانات يومياً وتتدخل قبل أن يضطر المواطن للشكوى، وتعويض تلقائي يُودع مباشرة في فاتورة المشترك أو حسابه البنكي إذا تجاوزت الانقطاعات الحد المسموح، وصندوق تموّله الشركات المخالفة يدعم فواتير محدودي الدخل، بحيث يستفيد المواطن من الكفاءة التي سيجلبها القطاع الخاص بدلاً من أن يدفع ثمنها.
ومن الأمور التي حرصت عليها الهيئة أهمية تطوير رحلة العميل. لذا أوجدت المنصة الإلكترونية وهي متاحة عبر موقع الهيئة (sera.gov.sa) ومنصة «نفاذ» الوطنية، تدعم تقديم الشكاوى على مدار الساعة، مع تصعيد تلقائي إذا تأخر مقدم الخدمة. وحددت الحد الأقصى للمعالجة بحيث يتم معالجة 85 % من الشكاوى خلال 10 أيام عمل، مع تعويض فوري للتأخير. وصممت برامج توعوية دورية للمستهلكين حول حقوقهم، مثل حماية العدادات والإبلاغ عن التعديات.
ومثل هذا البرنامج لحماية المستهلك يعكس عمق الفهم والإدراك لمحاذير التخصيص للقطاعات الحساسة للاستقرار الاجتماعي. ففي الوقت الذي تتردد فيه دول كثيرة في خصخصة خدماتها الأساسية نجحت بلادنا في قلب المعادلة: جعلت حماية المستهلك شرط نجاح التخصيص، لا عائقاً أمامه. ما أنجزته هيئة تنظيم الكهرباء ليس مجرد إطلاق هوية جديدة، بل إعلان رسمي بأن المملكة قررت أن تكون نموذجاً عالمياً في كيفية تحويل قطاع حيوي من عبء تنموي إلى أحد أهم مكونات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأحد أهم الفرص المستقبلية في تحول المملكة إلى المصدر الموثوق لكافة أنواع الطاقة.
ولأجل تعميق تجربة حماية المستهلك في قطاع الكهرباء ربما نحتاج توسيع دائرة الشركاء الأساسيين. من أهم الشركاء إنشاء (جمعيات أهلية غير ربحية) حتى تكون الذراع المجتمعي المساندة لهيئة تنظيم الكهرباء، فهذه الجمعيات يمكن أن تكون ذراعًا وتوفر قنوات مستقلة لرصد الشكاوى، وتحليل الفواتير، ورفع الوعي بالاستهلاك الرشيد؛ كما تسهم في تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال تقارير دورية وتوصيات موضوعية تضمن التوازن بين المزود والمستهلك.
ومع توسع برامج وتحديث منظومة الطاقة في المملكة والتركيز على حماية المستهلك، تصبح هذه الجمعيات عنصرًا أساسيًا لترسيخ نموذج سعودي متقدم للحماية الاستباقية ورفع جودة الخدمة.
كما قال الأمير عبدالعزيز قبل ست سنوات: «لن نسمح للإصلاحات أن تتم على حساب المواطن». اليوم، أثبتت المملكة أن هذا لم يكن مجرد وعد عابر، بل خطة نُفذت بنجاح. نحن على ثقة بأن المستقبل الكهربائي السعودي أصبح أكثر إشراقاً.. للمستثمر والمواطن على حد سواء.