عمرو أبوالعطا
هيمنة وسائل التواصل صارت طقسًا يوميًا، كأنها نهر يجري فوق وعى البشر، يرفع من يصنع ضجيجًا ويترك الآخرين في الظلال. الوجوه اللامعة تتحوّل إلى رموز، تُتداول بين الحشود كما يُتداول الضوء على صفحة ماء هادئ، فتختلط الصورة بالحقيقة، ويصبح الظهور معيارًا لقيمة الإنسان، كأن الشهرة نفسها ماء يتدفّق ويمنح كل من يقف في مجراه قدرة على التأثير، قدرة تتجاوز عمق الفكر أو مجهود العقل. أي جميلة بلهاء أو وسيم فارغ قد يتحوّل إلى رمز، يظهر في فضاءات متعددة، يتنقل بين منصات رقمية وبرامج تليفزيونية، كأنه ظلّ يتسلّل فوق مسرح العالم، يُرى أكثر من أن يُفهم.
المشهد اليوم يفيض بالسطحية، كأن الضفاف تختفي تحت المياه العاتية، فتختلط الضحكة المصطنعة بالحقيقة، والتكرار بالابتكار، والمبالغة بالموهبة. كل حركة تُلتقط بالكاميرا تتحوّل إلى حدث، وكل لقطة قصيرة تُعاد وتنتشر، كأن الخوارزميات تسكب على الناس مياه السرعة، فتغرق أعينهم في كل جديد، وتضعف رغبتهم في البحث عن العمق. الجمهور يتغذى على ما يستهلك بسهولة، فينساب المحتوى السريع مثل نهر يلتهم كل ما يعترضه، فتذوق القيمة يتراجع أمام ضوء الواجهة والسطح.
المنصّات الرقمية تحول التفاهة إلى إرث دائم، كأنها حجر أساس لبناء حاضر يتحرك بسرعة الضوء، فتكون الحركة أهم من الفكر، والظهور أهم من الإبداع، والضحكة أهم من التأمل. الشركات التجارية والإعلانية تتجه إلى هذه الرموز، فتمنحها فرصة لتسويق منتجاتها، وتضاعف من حضورها، فتتحوّل الشهرة إلى سلعة قابلة للقياس، ويصبح عدد المتابعين معيارًا للنجاح، وعدد الاعجابات مقياسًا للتقدير. التافه يجد نفسه متربعًا على منصة عالية، والجاد يتراجع في الظل، كأن المياه قد ارتفعت على من يحمل القيمة الحقيقية، وتركت سطحية هشة تتألق في الضوء.
الخوارزميات تعمل كما تيارات خفية في النهر، توجه السلوك، تحدد المشاهد، وتختار ما يظل في العين ويُنسى ما يمر مرور الماء على الحجارة. كلما ازداد حضور التافهين، صغر تأثير المبدعين، وكلما ارتفعت موجة الضجيج، خفت صدى الصوت العميق. الجمهور يعتاد على التلقائية في الاستهلاك، فتتحول المعرفة إلى صور، والفكر إلى لقطة، والرمز إلى انعكاس ضوئي يتسلّل في الذاكرة دون أثر حقيقي. الحياة أمام الشاشة تتحوّل إلى عرض مستمر، والوجود يقاس بمدى التفاعل مع الجمهور، كأن الإنسان صوره أكثر قيمة من إنسانيته، وظله أكثر حضورًا من روحه.
السطحية تتضاعف يومًا بعد يوم، فتتراجع القيمة الرمزية للفكر، ويختفي أثر الاجتهاد الطويل أمام الضوء الساطع للحظات العابرة. المحتوى العميق يحتاج وقتًا، يحتاج صبرًا، يحتاج انتباهًا، بينما السطحية تسير بسرعة الموجة على النهر، تلمس الضفاف ثم تختفي، وتترك أثرها في شكل ضحكات أو تعليقات عابرة، لكنها لا تغرس جذورًا في الوعي. الشاب الذي يستهلك هذا النمط ينسج عالمه على أساس الصورة واللحظة، فينسى قوة التأمل، ويغفل عن عمق التجربة، ويبحث عن الرضا السريع في ضحكة أو إعجاب، كأن كل شيء صار مؤقتًا، هشًا، يزول كما يزول الضوء عن صفحة ماء صافية.
المعركة الحقيقية اليوم مع الإنسان الذي يتحول إلى صورة، والصورة التي تتحوّل إلى سلعة، والسلعة التي تصنع الوعي السطحي. المعركة ليست مع المنصات، بل مع الطريقة التي تُستخدم بها، مع الإدراك الذي يسمح للسطحية أن تفرض نفسها، ومع القدرة على تمييز القيمة من الصوت العالي الذي لا معنى له. المعنى الحقيقي يتجاوز اللحظة العابرة، والعمق يتجاوز الضوء، والإنسانية تتجاوز صورة بلا روح. كل من يرفض الانجرار وراء الضجيج يظل على ضفاف النهر العميق، يختار ما يستحق الشرب من المياه، يلتقط من المعرفة ما يروّي العقل والوجدان، ويترك خلفه انعكاسات ضحلة تتلاشى مع كل موجة جديدة.
حتى في زمن يهيمن عليه السطح، يظل وعي الإنسان أداة، والفكر العميق مصدر مقاومة، والبحث عن القيمة طريقًا للحياة المستمرة. التفاهة قد تملأ المشهد، لكنها لا تملك القدرة على تحدي الزمن، بينما من يزرع المعنى يصنع أثرًا يبقى، كما يبقى النهر العظيم حاضرًا بين ضفافه، حاملًا الحياة، جامعًا لكل ما هو حقيقي.