محمد بن عبدالله آل شملان
من أشق الأوقات على الإنسان أن يخسر الطيبين الذين أخلصوا لوطنهم، وعشقوا تراب بلادهم، وأحبوا مجتمعهم، ودعموا ثقافتهم وهويتهم.
نصرّح ذلك، ونحن نودّع ناصر بن جريد الجريد، واحداً من الرّجال الأوفياء، الذي زامن الطليعة الأولى من المؤسسين وأخذ من معينهم، ثم عاصر حاضرنا، وقد ارتفع فيه بنيان المنجزات في العملية الإدارية والإبداع الأدبي.
غادر الدنيا «الجريد»، لكن لم تغادر من يعرفه بشاشته، التي كان يستقبل بها جميع من يقابله في مناسبات الاحتفالات والاستقبالات في إمارة منطقة الرياض.
غادر «الجريد» الدنيا بجسده، لكن ما زالت مواقفه مع كل من حوله باقية في الوجدان، ومن الصعوبة بمكان أن تفارق الذاكرة.
تجربة غنية استحوذها الراحل، بدأت من ولادته في أواخر ثلاثينات القرن الماضي في حارة الباب بمكة المكرمة، حيث بدأت ملامح شخصيته الفنية تظهر مبكراً، ثم تأكدت مع نشأته بين مكة والطائف في بيئة أدبية وثقافية أثرت في ذائقته الشعرية، وكانت أسرته داعمة لحضوره الثقافي.
امتلك -رحمه الله- مهارات مدير العلاقات العامة والمراسم، فحرص من خلال عمله في إمارة منطقة الرياض على التعامل مع الجميع بأدب جم، وعرف بإخلاصه وتفانيه.. كما كان من الشخصيات الداعمة للرياضة في المملكة، الأمر الذي برز من خلال عضويته في أول مجلس إدارة لنادي الهلال، ومن أوائل من خدموا مسيرة نجاحه ودافعوا عن تاريخه وهويته، وبحضور مناسبات وطنية جمعت كل أطياف المجتمع.
عرفه عن قرب، من لازمه أثناء عمله في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وكانوا شاهدين على جوانب متعددة من رحلته المليئة بالعطاء والعمل، والتي برزت في ثناياها صفات الشخصية السعودية في مدى قربها من الناس، والشعور بواقعهم، والتماس احتياجاتهم.
عرفه، وأحبَّتْ معه الكلمة الأدبية والمفردة الشعرية، التي نمت تحت حروفها وقوافيها، أحلامه وآماله، وازدادت في ظلالها قوّة عزيمته، وقد تعلم من عمق جذورها كيف يكون الحس الوطني والوجدان الإنساني للتعبير عن الانتماء والعاطفة.. ومن هنا، كانت خبرته الثرية في تجاوز حدود النص إلى عمق الفهم المشترك للفن والذائقة، وقدرته على اللغة واللحن، وانشغاله ببلوغ الموقف.
على شكل يومي، كان الفقيد نال تقدير ولاة الأمر وثقتهم، وعلى ذلك المسار كان يضيف كل جديد لرصيده في الأفئدة، في العطاء والصدق والرقي، باذلاً العديد من الخدمات الرائعة لمجتمعه بكل اعتزاز ومودة صادقة، ليبقي أثراً جميلاً في كل من عرفه، وهو الأمر الذي برهنت له الصلاة عليه بعد صلاة العصر، في جامع الملك خالد، يوم الخميس 13 نوفمبر 2025م، وحرص العديد على المشاركة في الصلاة من الأمراء وأصحاب الفضيلة والمعالي والمسؤولين والمواطنين، وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبدالرحمن بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة الرياض، وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين، كما برهنت على ذلك أيام العزاء في منزله بحي الملك عبدالله، الذي تقاطر عليه الجميع.
ليس هناك كلمات يمكنها أن تفي بأحاسيس الفقد التي اجتاحت زملاءه وأصدقاءه ومحبيه وأسرته وعائلته، غير أننا لا يحسن أن نقول إلا ما يرضي ربنا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.. رحم الله ناصر بن جريد الجريد، ونسأله أن يرحمه بواسع رحمته، ويكرم نزله، ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أسرته الكريمة وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.