نجلاء العتيبي
في فضاءات القرى والهجر، حيث تمتدُّ الأرض بهدوئها، ويتشكَّل الإنسان بالقرب من جذوره الأولى، تنشأ العقول على صفاء الإدراك قبل أن تلمسَها أنماط المدن.
هناك يتعلَّم المرء أن يُراقب الحياة من موقع القرب، فيلتقط ما يفوتُهُ على غيره؛ لا لأن بيئته محدودة، بل لأنها تمنحه رؤية مباشرة لا تشوبها مؤثرات كثيرة، وفي هذا القرب تتأسَّس بداية الوعي، وتتكوَّن قدرة فريدة على قراءة العالم دون وسائط.
أبناء القرى والهجر يكبرون وهم يتعاملون مع الواقع كما هو، لا كما يُروى أو يُصاغ في الكتب، يفهمون تغيُّر الفصول قبل أن يتعلَّموا المصطلحات، ويعرفون علاقة الإنسان بالأرض قبل أن تُدرَّس لهم فلسفتها، يقرأون وجوه الناس ويلاحظون الفروق الدقيقة في طباعهم، ويتعلَّمون مبكرًا أن كل تفصيل يحمل معنًى، ومن هذه الخبرات اليومية تتجذَّر لديهم ملكات تحليلية لا تتكوَّن في البيئات الصاخبة؛ لذلك يظهر بينهم -عبر الزمن- عدد كبير من النوابغ الذين برزوا في العلم والتنظيم والابتكار والقيادة.
فالنبوغ الذي يخرج من هذه البيئات ليس استثناءً، بل هو نتاج تكوين داخلي يبدأ منذ السنوات الأولى، فالطفل هناك يختبر المسؤولية بصورة عملية، ويعرف أثر أفعاله فورًا، ويكتسب ثقة مبكرة في قدرته على الفهم والحكم، هذه الثقة ليست غطرسة؛ بل هي تماسك نابع من العلاقة المباشرة بين جهده ونتيجته، ومن هذا التماسك تتكوَّن شخصية ثابتة قادرة على مواجهة التعقيد بثقة.
عندما ينتقل أبناء القرى والهجر إلى المدن أو الجامعات الكبرى يسعون إلى توسيع مداركهم، وتنمية قدراتهم، ويعاملون التعليم بجدية ووعي؛ طلبًا لفهم عميق يُنمّي مهاراتهم وخبراتهم، فكثير منهم يتقدَّم سريعًا؛ لأنهم يجمعون بين إرادة صُلبة، وقدرة عالية على التركيز، إنهم لا يدخلون المنافسة بروح القلق، بل بروح الهدوء الذي عرف قيمة العمل قبل أن يعرف قيمة الألقاب.
تتميَّز نظرتهم للأشياء بأنها نظرة جوهرية؛ لا ينجذبون للسطوع المؤقَّت، ولا تُربكهم الوفرة، معاييرهم صُلبة؛ لأنها تشكَّلت في بيئة لا تتغيَّر بتغيُّر المظاهر؛ ولذلك يملكون ذلك الاستقرار الذهني الذي يسمح لهم باتخاذ القرار دون تردُّدٍ، والاستمرار في الطريق حين يتوقَّف الآخرون، هذه السمة هي ما يجعل أبناء الهجر والقرى عنصرًا مهمًّا في نهضة المجتمع؛ فهم لا يتراجعون أمام الصعوبات، ولا ينخدعون بالطرق السريعة، يعرفون قيمة البدايات المتينة.
وقد أثبتت التجاربُ عبر الزمن أن القرى والهجر ليست فضاءاتٍ بسيطةً؛ إنها بيئات تنتج عقولًا مختلفة في طريقة إدراكها للواقع، فكثير من القادة والمفكّرين ورُواد العمل المؤثر خرجوا من تلك المساحات المتواضعة في ظاهرها، الغنية في مضمونها، فهم نتاج بيئة تبني الإنسان قبل الإنجاز، وتُرسّخ المعنى قبل المهارة، وتغرس الجذور قبل أن تُمدَّ الفروع نحو أُفُق أبعد.
واليوم، مع تزايد فرص التعليم واتساع مجالات التخصُّص، يدخل أبناء القرى والهجر إلى عالم المعرفة الحديثة وهم قادرون على الجمع بين أصالتهم الأولى وأدوات العصر، يحملون معهم وضوحًا في الهدف، وإخلاصًا في العمل، وجذورًا تجعلهم أكثر قدرةً على التوازن، فهم يعرفون أن التطوُّر لا يعني التخلي عن الأصل، وأن التقدُّم لا يكتمل إلا حين يكون الإنسان ثابتًا من الداخل.
إن أبناء القرى والهجر هم أبناء وعي وتجربة حقيقية، صقلتهم الأرض، وعزَّزتهم المسؤولية، وربَّتهم التفاصيل اليومية، ثم أتاح لهم العصر الحديث أن يُضيفوا بُعدًا جديدًا إلى ما اكتسبوه، ينهضون في مواقعهم بقدرة متميزة، ويثبتون أن النبوغ لا تحدده الجغرافيا؛ إذ يحدده الإنسان حين يعرف نفسه ويعرف الطريق.
ضوء
“في كل زاوية من قرى وهجر وطني، تنبض عقول نابغة، لا تحتاج إلا لمساحة لتتفتَّح؛ لتُثبت أن النبوغ والإبداع لا يُقاسانِ بالمكان أو الثراء”.