عمرو أبوالعطا
في صباح كل يوم، حين يفتح الإنسان عينيه، يبدأ رحلة صغيرة لا يشعر بها غالبًا، لكنها الأهم في حياته؛ رحلة بناء ذاته. كل فكرة تمر في ذهنه، كل كلمة يهمس بها لنفسه، وكل فعل صغير يقوم به، هو حجر يوضع في بناء شخصيته.
يقول الفيلسوف الصيني لاوتسو: «راقب أفكارك، فهي تتحول إلى كلمات، والكلمات تتحول إلى أفعال، والأفعال تتحول إلى عادات، والعادات تشكل شخصيتك». هذه الكلمات قد تبدو بسيطة، لكنها تحمل سر أن الإنسان لا يولد أخلاقيًا، هو يصنع نفسه بتكرار أفعاله وبتوجيه عقله نحو الخير، خطوة خطوة، بلا وعي كامل أحيانًا، لكنه يبني ذاته حتى يصبح ما يكرره يوميًا. كل ما نراه من تصرفات في الآخرين، من صدق أو كذب، صبر أو عجلة، لطف أو قسوة، لم يظهر فجأة. هو نتيجة تراكم أفعال صغيرة، لحظات يومية بسيطة قد لا ننتبه إليها، لكنها تصنع الإنسان من الداخل إلى الخارج. لطالما أحب الناس أن يظنوا أن الأخلاق فطرية؛ يولد هذا طيبًا وذاك شريرًا، وأن بعض النفوس حادة وبعضها رقيقة. لكن العلم يوضح أن بعض الميل الفطري موجود، مثل التعاون أو الشعور بالعدل، أما أغلب الأخلاق فتتشكل عبر العادات اليومية والبيئة المحيطة بالإنسان.
وفي هذا الموضوع، يشرح لنا الباحث الأمريكي جيمس كلير كيف تتحول الأفعال العابـرة إلى عادات ثابتة. كل عادة تمر بأربع مراحل: البداية، الرغبة، الفعل، والمكافأة. تخيل شعورك بالتوتر، كيف يدفعك للتصرف بطريقة ما، ربما تناول قطعة حلوى أو تصفح الهاتف، ثم تشعر بالارتياح بعد ذلك. إذا تكرر هذا الفعل مرات عديدة، يتحول إلى عادة تتحكم في سلوكك، ومع مرور الوقت تصبح جزءًا من شخصيتك.
الصدق، الكرم، الصبر، كلها أمثلة على أن الأخلاق ليست شعورًا عابرًا، ولا قرار لحظة واحدة. مَن يصدُق مرة واحدة لا يُسمى صادقًا، لكن من يكرر الصدق رغبة في صفاء الضمير، أو حبًا للحقيقة، ثم يشعر بالرضا بعد كل مرة، يصبح الصدق جزءًا من ذاته. الأخلاق تبنى بالتكرار، وليس بالكلام أو الوعظ. البيئة تلعب دورًا كبيرًا في بناء الأخلاق. فهي ليست مجرد خلفية، هي فاعل أساسي في تكوين البداية والرغبة والفعل والمكافأة. من يعيش في مجتمع يكافئ الغش ويهمل الأمانة يجد الخير صعبًا، أما من يحيط نفسه بأناس صادقين، فتظهر عنده إشارات الخير تلقائيًا. المدارس، الأسر، أماكن العمل، كلها تصنع إشارات يومية تشعل حلقة العادة، وتوجه سلوك الإنسان، وتزرع بداخله حب الفضائل. فإذا أردنا أن نبني أخلاقًا سليمة، علينا أولًا زراعة الإشارات الصحيحة، ربطها بالرغبات الصحيحة، ومكافأة الاستجابة الإيجابية.
ولا تكتمل العادة دون المكافأة النفسية، وهي جوهر تثبيت السلوك. كل مرة تقول لنفسك: «أحسنت، كنت صادقًا» بعد فعل أخلاقي، أنت تقوي دماغك لتكرار هذا الفعل. بهذا الشكل، كل تصرف أخلاقي هو خطوة جديدة نحو بناء شخصيتك وهويتك. تخيل معي، كل مرة تختار ما تكرره، أنت تختار من ستصبح. كل عادة صغيرة، كل فعل طيب، هو خطوة نحو الإنسان الذي تريد أن تكونه. الأخلاق ليست عبئًا أو فرضًا خارجيًا، هي نتيجة طبيعية لما نكرره يوميًا، وما يحيط بنا من إشارات ومكافآت.
الأخلاق ليست لحظة واحدة، ولا معركة نخوضها بين ليلة وضحاها، لكن مشروع طويل الأمد نُعيد تكراره كل يوم. نحن نصنع أنفسنا بالتكرار المستمر، فنختار ما نكرره، لأننا نصبح في النهاية ما نزرع. كل فكرة، كل كلمة، كل تصرف صغير، هو جزء من الرحلة. من يدرك هذا، يصنع حياته وحياة الآخرين حوله بالخير، ويترك أثرًا يستمر.