د. ناهد باشطح
فاصلة:
«نحن لا نرى العالم كما هو بل كما نحن»
- ستيفن كوفي -
أعلن معالي وزير الإعلام السعودي الأستاذ سلمان الدوسري أن (زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء إلى الولايات المتحدة الأمريكية الأسبوع الماضي شكلت الحدث الأبرز عالمياً؛ ما عكس ثقل المملكة الدولي، وأن التغطيات الإعلامية بلغت نحو 4 مليارات وصول وتجاوزت المواد الإعلامية المنشورة 120 ألف مادة إعلامية بأكثر من 45 لغة في 130 دولة وبمشاركة نحو 5 آلاف وسيلة إعلام دولية).
إذاً نحن أمام مليارات من الوصول الإعلامي، وعشرات الآلاف من المواد المنشورة بلغات مختلفة وفي عشرات الدول. هذه الأرقام من المشاهدات تعني أننا لسنا أمام خبر فقط، بل أمام رسالة غير مكتوبة تؤكد أن السعودية في مركز الاهتمام.. والعالم ينظر إلينا.
ففي عصر الإعلام الرقمي، لم يعد السؤال الأهم: ماذا حدث؟ بل: كيف قُدِّم الحدث للعالم وكم شاهد؟
تقليديًا، تُقاس زيارات القادة السياسيين بميزان الملفات المطروحة، وحجم الاتفاقيات، وطبيعة العلاقات بين الدول، فزيارات قادة في الشرق أو الغرب تُقدَّم غالبًا في إطار المصالح الاستراتيجية والتوازنات السياسية، لا من خلال لغة الأرقام والمشاهدات، حيث يظل التركيز منصبًّا على المصالح لا على الانتشار الإعلامي.
في زيارة ولي العهد إلى واشنطن، برز بُعد مختلف في التغطية الدولية؛ إذ لم تعد الزيارة مجرد حدث سياسي، بل تحوّلت إلى محتوى إعلامي واسع الانتشار، قابل للمشاركة عبر المنصات المختلفة. وهو ما يعكس تحوّلًا أوسع في مفهوم القوة، التي لم تعد تُقاس فقط بالسلاح والاقتصاد، بل بالصورة، والتأثير، والانتشار.
غير أن التغطية الإعلامية انقسمت إلى نوعين: ففي حين ركّز الخطاب الرسمي على حجم التغطيات والوصول الإعلامي، اتجه بعض الإعلام الغربي إلى تناول الحدث عبر طرح أسئلة تتعلق بحقوق الإنسان والعلاقة بين القيم والمصالح.
وهنا ظهرت روايتان للحدث: رواية تعتمد على الأرقام والانتباه العالمي، وأخرى تعتمد على الأسئلة والنقاش السياسي. وهذا كان بسبب طرح المذيعة الأمريكية سؤالاً عن قضية خاشقجي، وهو سؤال لا يبحث عن إجابة جديدة، بل ضمن ما يعرف في دراسات الإعلام بـ«التأطير الأخلاقي» إذ يسعى الصحافي إلى إعادة الحدث إلى إطار قيمي، حتى لا يُقرأ اللقاء بوصفه مجرد مشهد إنجاز دبلوماسي. وهذا جزء من آلية عمل الإعلام الغربي، الذي يجد نفسه دائمًا أمام معادلة دقيقة: كيف يوازن بين تغطية المصالح الاستراتيجية من جهة، والحفاظ على صورته كإعلام مستقل وناقد من جهة أخرى؟
لذلك، كثيرًا ما تظهر في التغطيات الغربية ظاهرة تقديم لغة الصفقات أولًا، ثم العودة إلى ملفات الحقوق والحريات لاحقًا.
لكن ما أدهش المحللين هو الذكاء وسرعة البديهة التي ظهرت في إجابة الأمير الشاب، إذ حمل رد الأمير محمد بن سلمان ثلاث رسائل إعلامية واضحة:
1- إبراز الجانب الشعوري لا السياسي
التركيز كان على الألم الإنساني:
«من المؤلم حقًا سماع أي شخص يفقد حياته» وهذا يحوّل الرد من ساحة المواجهة إلى ساحة التعاطف الإنساني.
2- إعادة ضبط النبرة بدل الصدام
لم يهاجم الأمير الصحافية، ولم يرفض السؤال، بل احتواه وأعاد صياغته أخلاقيًا، وهو ما يُعرف إعلاميًا بـStatement Reframing أي تحويل مسار السؤال من حرج سياسي إلى إطار إنساني.
3- رسالة للخارج أكثر من الداخل
جاء رد ولي العهد ليُقرأ من منظور الجمهور الغربي: احترام الحياة، الألم الإنساني، دون الدخول في تفاصيل سياسية.
هذا النوع من الردود يُصنّف في الإعلام السياسي كـ:Soft Containment Response احتواء السؤال بدل الاشتباك معه.
لقد أعاد ولي العهد صياغة المشهد، فبدل أن يتحول السؤال إلى لحظة إحراج، تحوّل إلى مساحة تهدئة، وبدل أن يكون اختبارًا سياسيًا، أصبح رسالة موجهة للجمهور الغربي بأن الخطاب السعودي لا يقوم فقط على المصالح، بل على الاعتراف بالبعد الإنساني للأحداث.
في النهاية، الحدث السياسي واحد، لكن الروايات الإعلامية متعددة، فالإعلام لا يكتفي بنقل الوقائع، بل يعيد ترتيبها ضمن إطار معين يتوافق مع ثقافة المؤسسة الإعلامية وجمهورها؛ لذلك علينا كقراء أن نقرأ الروايات المختلفة.