علي حسن حسون
في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، ويغدو العمل رفيقًا دائمًا حتى خارج أسواره، برزت ظاهرة الاحتراق الوظيفي كجرس إنذار يقرع في صمت. ففي عام 2019، صنّفت منظمة الصحة العالمية هذه الحالة ضمن التصنيف الدولي للأمراض (ICD-11) بوصفها ظاهرة مهنية ناتجة عن ضغوط عمل مزمنة لم تُدار كما ينبغي، تُترجم إلى إرهاقٍ متراكم، وتباعدٍ ذهني عن العمل، وتراجعٍ في الكفاءة والعطاء.
ومنذ أن وصفها العالم هربرت فريودنبرغر عام 1974 بأنها إرهاق جسدي وعقلي يولد من التزامٍ مفرط يتجاوز طاقة الإنسان، أصبحت رمزًا لصراع الإنسان الحديث بين الإنجاز والإنهاك، وبين الشغف والبقاء. إنّها قصة كل من أعطى أكثر مما يحتمل، فوجد نفسه في مساحةٍ رمادية بين حب العمل وفقدان الرغبة فيه.
أما التسطيح الذي يُروَّج له أحيانًا حول الاحتراق الوظيفي، فهو اعتباره مجرد دعوةٍ إلى فصلٍ تام بين الحياة المهنية والخاصة، أو تبريرٍ لتجاهل المسؤوليات خارج أوقات الدوام، وكأن العلاقة بين الموظف والمنشأة لا تتجاوز حدود المقابل المادي: «بقدر ما تدفع أعمل، وانتهى الأمر».
لكن هذا الفهم السطحي يُجرد العمل من قيمته الحقيقية، ويختزل الإنسان في معادلة ربحٍ وخسارة لا تعبّر عن جوهر التجربة المهنية.
فعند التأمل بعمق، ندرك أن العلاقة بين الفرد ومهنته أعمق من أن تكون مادية ، فالمهنة ليست مجرد مصدر دخل، بل هي مسار حياة تُسهم في تشكيل الوعي، وتطوير المهارات، وبناء الشخصية، لان الساعات الطويلة التي نقضيها في العمل ليست وقتًا مهدورًا، بل استثمارًا في نمونا الذاتي والمهني. ثق تمامًا أن ما تمارسه من عمل، وما تكتسبه من خبرة، وما تصقله من مهارات، ليست مجرد أدوات مهنية، بل أساليب حياة تساعدك على إدارة نفسك، وفهم الآخرين، والتعامل مع ضغوط الحياة بعقلٍ أكثر نضجًا واتزانًا، فالمهنة الحقيقية لا تسرق منك حياتك، بل تعلّمك كيف تحياها بوعيٍ ومسؤولية.
إن الاحتراق الوظيفي الحقيقي – كما أشار إليه ريتشارد لازاروس – ليس مجرد تعبٍ أو مللٍ من العمل، بل هو نتيجة لفشل الفرد في التكيف مع ضغوطٍ متكررة تتجاوز قدرته على المواجهة والتوازن. إنها اللحظة التي تتغلب فيها المتطلبات على الإمكانات، فيفقد الإنسان شغفه وفاعليته، وربما ذاته مؤقتًا.
وباختصار، فإن مقدار وعيك اليوم يعكس مقدار ما تمتلك من مهارات، وما تستطيع توظيفه منها في رسم أسلوب الحياة الذي تريده خلال مرحلةٍ زمنية معينة. ومع اكتساب مهارات جديدة، يتوسع هذا الوعي ويتجدد، فتتعلم كيف تتعامل مع الضغوط بذكاءٍ أكبر ونضجٍ أعمق. فالوعي ليس مجرد معرفة، بل مهارة متحركة تتطور مع التجربة، وهو والمهارة وجهان لعملة واحدة. وحين تدرك هذه الحقيقة، ستعلم أن مواجهة الاحتراق الوظيفي لا تكون بالانسحاب أو التجاهل، بل بـ الوعي بذاتك، وتنمية قدراتك، وبناء توازنك بين العطاء والراحة — فذلك هو الطريق نحو الاستمرار بشغفٍ لا يحترق.