خالد محمد الدوس
مّر علم الاجتماع برحلة تأسيسية وتطورية طويلة كانت صعبة ومعقدة.. بدءاً من جذوره الفلسفية، ومروراً بمرحلة الانفكاك.. ووصولاً إلى استقلاله كعلم أكاديمي له نظرياته ومدارسه وأبحاثه ومقوماته العلمية.
ففي المرحلة الأولى المتمثلة في الجذور الفلسفية القديمة.. كان من أشهر الفلاسفة المساهمين في هذه المرحلة هم: أفلاطون وأرسطو والفارابي، وكانت إسهاماتهم تتمثل في تناولهم قضايا المجتمع والدولة والسياسة والمدينة الفاضلة ضمن إطار فلسفي وقيمي صرف. ثم جاءت الإرهاصات الأولى لقيام علم الاجتماع على يد العلامة العربي عبد الرحمن بن خلدون - رحمه الله تعالى - الذي يعد من أبرز العلماء الذين عرفتهم الحضارة العربية والإسلامية على مـّر التاريخ.. فقد كانت منجزاته في علم الاجتماع وعلم التاريخ علامة فارقة أضافت كثيراً من الإنجازات والأفكار الجديدة إلى الفكر العربي الإسلامي والفكر الإنساني بشكل عام، حين أعلن عن نشأة علم جديد سمَّاه «علم العمران البشري»، ووضع موضوعاته ومسائله ودعائمه (الموضوع -المنهج- الهدف)، لكنه لم يؤسس أكاديمياً!.
يمثل علم العمران البشري علماً مستقلاً ومستحدثاً يختلف عن سائر العلوم والفنون التي عرفت في عصر العلامة ابن خلدون، والتي قد تبدو متداخلة معه أو مختلطة بميدانه، فهو يختص بموضوع (الاجتماع الإنساني).. له مجالاته ومفاهيمه وأطُره التفسيرية وهو ما بيَّنه (ابن خلدون) في مقدمته العملاقة. وبالطبع قرأ ابن خلدون تاريخ العالم، وخاصة تاريخ العالم الإسلامي واستعرض كتب التاريخ لمراجعتها ووجدها مليئة بالمغالطات والأكاذيب والتضليل..!!؛ لذلك وجد من الأهمية بمكان إيجاد «علم شامل» يقوم على الشرح والتحليل وتعليل الحوادث لتصحيح الوقائع التاريخية، وانتهى إلى تأكيد ضرورة قيام علم جديد هو «علم العمران البشري»، وقد وضع مقدمته الشهيرة المعروفة بـ»مقدمة ابن خلدون» بعد ولادة هذا العلم التراثي الأصيل.. حيث أوضح فيها أسُس مولوده الخلدوني الأول «علم العمران البشري» والذي سمي حديثاً بـ «علم الاجتماع»، وبالتالي يعد ابن خلدون المؤسس الأول لعلم الاجتماع، ثم انتقال أبو العلوم الاجتماعية وضمن مراحله التطورية والتحولية إلى لحظة التأسيس لهوية هذا العلم.. حصلت في بيئة غير بيئة ابن خلدون، كانت بدايتها مع نشأة العلم الحديث في أوروبا، وهي نشأة ارتبطت بظروف التحول الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري التي عرفها المجتمع الأوروبي، طبعاً جاءت عملية تأسيس علم الاجتماع الحديث بكافة اتجاهاته ونظرياته استجابة للتطورات التي عرفها المجتمع الأوروبي التي بدأت منذ عصر النهضة إلى نهاية القرن التاسع عشر، مروراً بعصر الثورة الفرنسية وما صاحبها من ثورات فكرية وعلمية وصناعية تحولت معها بنـّية المجتمع الأوروبي من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث صناعي، كما أن للثورة العلمية التي حققتها العلوم الطبيعية خاصة الفيزياء الأثر في توجيه التفكير في القضايا الكبرى التي بدأت تطرحها التحولات، والتي أفرزت أفكاراً كانت منبراً لأعمال مفكرين أوائل يعتبرون من رواد الفكر السوسيولوجي المعاصر، وهؤلاء الرواد استلهموا تصوراتهم ومناهجهم مما حققته العلوم الطبيعية والفيزيائية من نتائج علمية والتي جعلت أسلوب التفكير في العلوم الطبيعية الفيزيائية هاجساً حرك كل محاولات التفكير الاجتماعي للارتقاء به إلى الأسلوب العلمي، وتأسيس معرفة علمية اجتماعية ترقى إلى نفس مرتبة الفيزياء، فكان هذا الهاجس وراء تكون تصور يجعل من الفيزياء العلم الأمثل والنموذج الذي على المعرفالاجتماعية في بدايتها الأولى الاقتداء به. فإذا كانت الفيزياء تسعى إلى دراسة قوانين الطبيعية فإن الأولى لبناء علم الاجتماع ستسعى بجعله علماً يدرس القوانين التي يخضع لها المجتمع. ولذلك تولى عالم الاجتماع الفرنسي والمفكر أوجست كونت (1798-1857) مهمة تأسيس علم الاجتماع الحديث متأثراً بالعلوم الطبيعية، وكان يطمح إلى تطبيق الأساليب العلمية لدراسة المجتمع وتحليله أطلق على العلم في البداية الفيزياء الاجتماعية»، ثم غيَّره إلى علم الاجتماع وكان يعتقد أن المجتمع يمكن دراسته وفهمه بنفس الطريقة التي تدرس بها الظواهر الطبيعية وإن القوانين الاجتماعية يمكن اكتشافها لتحسين أوضاع البشر. ولكن جاء من أقصى المدينة الاجتماعية الفرنسي العالم المجدد الشهير إميل دوركهايم (1858 - 1917) ليعطي هذا العلم الصبغة الأكاديمية. ويعتبر بالفعل المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع الاكاديمي حيث نجح في تحويل دراسة المجتمع من أفكار فلسفية تأملية إلى علم قائم بذاته له منهجه ونظرياته وقواعده المحددة، فقد شكل مشروع العالم الفذ (إميل دوركهايم) دعامات رئيسية حولت علم الاجتماع إلى حقل أكاديمي مستقل وشرعي وضع له منهجية علمية دعا لدراسة الظواهر الاجتماعية بموضوعية باستخدام الإحصائيات والمقارنات لاستخلاص القوانين الاجتماعية، كما شغل أول كرسي لعلم الاجتماع في فرنسا قي «جامعة بوردو» العريقة وأنشأ أول قسم لعلم الاجتماع في بلده فرنسا، كما أنشأ منصة للنشر العلمي، وأسس أول مجلة الحولية السوسيولوجية عام 1989، إلى جانب أنه قدم إسهامات نظرية عميقة ساهمت في صياغة النسق النظري لعلم الاجتماع ومن أبرزها نظرية التضامن الاجتماعي وتقسيم العمل، ولم يقتصر تأثير مشروع دوركهايم على تأسيس هذا العلم الأصيل بمفهومه الأكاديمي بل امتد ليشكل أجيالاً من العلماء والمدارس الفكرية، حيث شكلت مدرسة الحولية السوسيولوجية الدوركهايمية (نواة) لفكر اجتماعي متماسك.. خرجّت تلاميذ بارزين تطول القائمة بذكر أسمائهم!.
يمكن القول إن رائد علم الاجتماع الحقيقي (إميل دوركهايم) لم يكن مجرد عالم اجتماع بين آخرين.. بل كان (المهندس الرئيسي) الذي أرسى قواعد هذا العلم بشكل منهجي على أرضية صلبة.. بعد أن نجح ومن خلال مشروعه الكبير من تحويل التأملات حول المجتمع إلى علم قائم على الملاحظة والتجريب والتحليل النظري المحكم، (مؤسساً) بذلك تراثاً علمياً أصيلاً وخصباً.. لايزال حياً حتى اليوم وحاضراً في صروحنا الأكاديمية.