عبدالله العولقي
بعضُ المُبْدعين تتخطّفُهم يدُ المنونِ وهُمْ في رَيَعَانِ شبَابِهم، ويتلقّاهمُ الموتُ وهمْ في أوْجِ عَطَائِهم الإبْداعي، ولعلّ الشاعرَ الجاهليّ الشهيرَ طرفة بن العبد البكري يأتي في طليعةِ هؤلاءِ المُبْدِعين، فقد تُوفّي طرفةُ وهو في السادسةِ والعشرينَ منْ عُمْرهِ بعْدَ أنْ قتلهُ ملكُ البحرين انتقاماً لقصيدةٍ كانَ قدْ هجاهُ بها، وبالرغمِ منْ عُمُرِه القصيرِ إلا أنّه أحدُ شعراء المعلّقاتِ السّبعِ الشهيرةِ في العصرِ الجاهلي، وهكذا كانَ الشاعرُ الفرنسيُّ آرثر رامبو الذي ماتَ وهو في الثامنةِ والثلاثينَ مِنْ عُمُره، ولكنّه يُعَدُّ مُؤَسِّسُ المدرسةَ الرمزيّة في الأدبِ الفرنسي!!.
حديثُنا اليوم عنِ الشاعرِ الفرنسيِّ آرثر رامبو أو عبْده رامبو كمَا يحلو لأهَالي مدينةِ عدنْ أنْ يُسمّوه، أو عبْدربّه كما كانَ يُطلقُ عليه في الحَبَشة، فقدْ نظَمَ رامبو الشّعرَ وهو في السّادسةِ عشْرة منْ عُمْرهِ ثمّ هجَرهُ إلى غيرِ رجعةٍ وهو في التاسعةِ عشْرة منْ عمرِه ، أيْ أنّ الضجّةَ الواسعةَ التي أقامَها رامبو بقصائدِه وشعرِه كانتْ خلالَ هذهِ الثلاث سنين المُبكّرة منْ عُمْرِه!، حيثُ لمْ تلقَ قصائد رامبو في حياته تلك الزوابع والدراسات المثيرة كالتي حَظِي بها بعدَ وفاته، فالرمزيّة التي أسّسها هذا الشابُ الجريءُ لمْ يتذوّقها القارئُ الفرنسيُّ في حينِها فضْلاً عنْ جهْلِه بأسلوبها وعنْ نَمَطِها، ولكنّ التطورَ الثقافيُّ الأدبيُّ الذي تبعَ وفاةَ هذا الأسطورة جعلهُ محطّ أنظارِ النقادِ والدارسين الذين كتبوا عنه بشيءٍ من التوسّعِ والإمتدادِ بالرغمِ منْ أنّ شاعريّته كانتْ خلال ثلاث سنين مبكّرةٍ من حياته خصوصاً أنه قد أثّر في جيلٍ كاملٍ وفي فترةٍ قصيرةٍ جداً، فلقد اهتدى رامبو إلى الرمزيّة دونَ أنْ يعِي نفسه هذا الإهتداء الخطير في عالمِ الأدب!.
عاشَ رامبو في مدينةِ شارلفيل بشمالِ فرنسا وسْطَ أُسْرةٍ يغلبُ عليها الشجارِ بين الزوجين، وقد نشأ الطفلُ في هذه البيئةِ المشحونةِ بالمشاكلِ الزوجيّة وعدمِ الاستقرار، وقد ورثَ الطفلُ رامبو منْ طباعِ أبيهِ السفرَ وعدم الاستقرار، ومنْ صفاتهِ الجسميّة زُرْقة العينين والجبْهةِ الواسعةِ والشعرِ الكُستنائي، كما وَرِثَ عنْ والدته القوامَ الفارعَ والكبرياءَ المتوحّشَ كما يقولُ المؤرخون، فكانتْ صفاتُه الجسديّة والذهنيّة مزيجاً بينَ تناقضاتِ الأبِ والأم، أو تناقضيّة ماديّة الجسد والرُّوح الصوفيّة!، وعندما التحقَ رامبو في التعليمِ وهو في الثامنةِ من عُمُرهِ كان يتضايقُ من الإلتزامِ الدراسيِّ ولا يُحبُّ الاستقرار، ولكنّه كانَ شعلةً منَ الذكاء، فكانَ يقضي درسَ الرياضيات في كتابةِ أشعارٍ وقصائدَ باللاتينيّة!!، فقالَ عنه مديرُ المدرسة: سيكونُ هذا مَلاكاً أوْ شيطاناً!، ومعَ ذلكَ فقدْ كانَ ترتيبُه الأوّل في الصّف!، ونالَ الجائزةَ الأولى في الشعرِ ممّا جعلَ شارلفيل كلها تلهَجُ باسمه!!، وفي المقابلِ كانتْ له بعض التصرفاتِ الغريبةِ التي كانتْ تصدمُ مُعلّميه وزملائِه في المدرسة، فحين نادوه في نهايةِ السنةِ لاستلامِ جائزةِ الشعر صاحَ بين الجموع: هذه الجوائزُ تافهةٌ لا قيمة لها، ورفضَ التقدمَ لاستلامِ الجائزةِ رغمَ محاولاتِ زملائه له، فما كان منْ بعضهم إلا اتهامه بالجنون!!.
كان رامبو عنيداً متمرداً يهربُ من ضجيجِ الناسَ إذا انتابه الضيقُ إلى الغاباتِ وشاطئِ النهرِ يتأمّلُ الطبيعة، ويكتبُ الشعرَ بأريحيّةٍ تامّةٍ، كان ذلك الهروبُ يُشْبه ما كان يفعلُه الصعلوكُ القديمُ الأُحيمر السعديُّ عندما كان ينفرُ إلى الصحراءَ وحدِه، ويقول حين يستأنسُ بوحشتِه هناك:
عَوى الذئبُ فاسْتأنسْتُ للذئبِ إذْ
عَوى وَصوّتَ انسانٌ فكِدْتُ أطيرُ
وحين قامت حربُ السبعين بين فرنسا وألمانيا، هربَ من شارلفيل إلى المجهول، لمْ يكنْ يدري إلى أينَ سيذهب؟، فسارَ على قدميهِ مسافاتٍ طويلةٍ جداً، ينامُ على الأرصفة، ويأكلُ منْ بقايا أطعمةِ الناس والفنادق، فكانَ مثالاً حيّاً للصعلكةِ والتشرد!، فكانت حياتُه بئيسةً وشاقة، فجرّبَ السجنَ وجرّبَ السفرَ وجرّبَ التشرد!، ولكنّ محاولاتَه لمْ تفلحْ عنْ وصولهِ إلى الاستقرارِ النفسيِّ الذي يبحثُ عنه، فقدْ كانَ يهربُ من المجهولِ إلى المجهول، فلا يعْرفُ إلى أينَ ستذهبُ به قدماه؟، ولكنّه كانَ يعرفُ جيّداً ممّا يهربُ منه!، لقدْ كانَ الفقرُ عدوّه الذي أضناهُ في حياتِه الأولى وأشقاه، ففكّر في الهجرةِ بعيداً عن فرنسا بلْ عنْ أوروبا كلها علّه يجدُ هذا الإستقرار المجهول الذي أضنى روحَه، ويعثرُ على الثروة الذي طالما تمنّاها!!.
ركبَ آرثر رامبو البحرَ وتوجّه إلى مدينةِ السويس المصريّة ثم رمى عصا ترحاله في ميناءِ عدن التاريخيِّ جنوب شبهِ الجزيرةِ العربيّة، وقدْ كانتْ عدنُ تلك الأيّامِ تحتَ الاستعمارِ البريطاني، وقدْ أهّلَت بريطانيا حينها الميناءَ البحريَّ هناك ليكونَ مركزاً تجاريّاً استراتيجيّاً عالميّاً وقد كانَ كذلك، فتحوّل طيلة النصف الأول من القرنِ العشرين إلى الميناءِ الثالثِ عالميّاً في الأهميّة بعدَ نيويورك وليفربول، وقد وصلَ آرثر رامبو إلى عدن في عام 1880م، واشتغلَ عتّالاً يحْملُ البضائعَ على كتفِه، ثمّ اشتغلَ في مُهِمّةٍ تافهةٍ تقتضي بمراقبتهِ لمجموعةٍ من النّساءِ يقُمْنَ بتصفيةِ البُنِّ من الشوائبِ قبلَ شحْنه إلى موانئ أوروبا!!، وهناكَ تعلّمَ رامبو اللغةَ العربيّة حتّى أجادَها، وأقامَ سلسةً من العلاقاتِ الإجتماعيّة المتميّزة، فأحبّه الناسُ حينَها وأطلقوا عليه اسمَ (عبده رامبو) بدلاً من آرثر رامبو، ولكنّه رغمَ كلِّ تلكَ الحفاوةِ كرِهَ المُقامَ في عدن لأنّ حرارةَ الشمسِ الملتهبةِ لمْ تكنْ تُلائمُ رجُلاً أتى من بلادِ أوروبا الباردة، وقدْ نشرتْ أُختُه في مذكّراتها بعضَ رسائله التي كان يصفُ فيها حرارة عدن بجهنّم الصغرى!!، كما أنّ أجرَهُ كان ضئيلاً جداً لمْ يكنْ يسدُّ حاجاته الأوليّة، وبفضلِ صداقاتِه التي أقامها في عدن استطاعَ أنْ ينتقلَ إلى فرعِ الشركة في مدينة هرر الحبشية.
انتقلَ رامبو إلى أرضِ الحبشةِ وانصدمَ منَ المعيشةِ فيها، فلمْ تكنْ تلك البلاد التي توقّعها طريقاً له نحْوَ أحْلامِه في الثراءِ السريع، فعادَ مرةً أخرى إلى عدن مُكْرهاً ولكنّه ضاقَ بها هذه المرّةِ ولمْ يسْتطعْ أنْ يستمرَّ في العيشِ بها، وهكذا أصبحَ رامبو في حالةٍ نفسيّةٍ سيّئةٍ، ففكّر أنْ يُصبحَ مُسْتكشِفاً جغرافياً في قارّة أفريقيا، فطلبَ منْ أهْلِه في فرنسا أنْ يُرْسلوا إليه معدات التصويرِ وكُتباً عنِ الإستكشاف، وبالفعلِ وصلتْ هذه المعدّات والكتب، فعادَ إلى مدينةِ هرر الحبشيّة وواصَلَ أحْلامَه في استكشافِ أدْغالِ أفريقيا وصحاريها، إلّا أنّ إفلاسَ الشركةِ التي يعملُ بها حالَ بينه وبينَ إكمالِ طُموحِه وحُلمِه فعادَ إلى عدن، ولأنّ الفقرَ عدوُّ رامبو منذ نشأته فقد كانَ يسعى إلى الثراءِ السريع، فبدأ في تجارةِ الأسلحةِ حتّى جنى من ورائِها ثروةً لا بأسَ بها، وبدأت الحياةُ تبْتسمُ في وجههِ إلا أنّها سرعانَ ما عبستْ فيه مرةً أخرى عندما بدأ يشعرُ بتورّمٍ عصيبٍ في ركبتهِ أتعبهُ كثيراً وأرّقَ حياته بعدها، وبعدَ أنْ تأزّم مرضه وأضحتْ آلامه لا تُطاقُ قرّرَ العودة إلى فرنسا حتى يموتَ عندَ والدته وأخته، فجمعَ ثروته التي استطاعَ جنْيها من تجارتهِ بين عدن والحبشة وسافرَ بحراً إلى مارسيليا، وعندما عرضَ حالته على الأطباء لمْ يتردّدوا في بترِ ساقه اليُمْنى ثم تُوفّي بعدها وهو في سنِّ الثامنة والثلاثين، وأُسدلَ الستارُ عنْ حياةِ شاعرٍ بائسٍ وتاجرٍ لمْ يظفرْ بالنجاحِ إلا في أُخرياتِ عُمره الذي عاشه في ثمانية وثلاثين عاماً فقط!!.
يُعابُ على رامبو في سيرته سلوكِهِ الشخصيِّ السّيء وانحلالِهِ الإخلاقي وإنْ كانَ ذلك محطَّ شكٍّ ونفيٍ عندَ بعضِ المُؤرخين، فتجربتُه في الحياةِ لا تُعدُّ أنموذجاً أو مثالاً صالحاً لمَا يعْتريها من القولِ حول الإنحطاطِ الأخلاقي، بالإضافةِ إلى أنّه كانَ مثالاً للصعلكة والتشرّد، لكنّ أهميته الأدبيّة تكمنُ في تجربتهِ الشعريّةِ القصيرةِ التي جعلتهُ رائداً منْ روّادِ الأدبِ الرمزيِّ حولَ العالم، ففي القرنِ العشرين أصبحَ آرثر رامبو محَطّ أنظارِ النقادِ العَالمِييّن ، فدرسوا شعره الذي نظمهُ مُبَكّراً، وعَدُّوهُ منْ مُؤسّسي المدرسةِ الرمزيّةِ في الأدبِ العالمي، واختالَ به الفرنسيون وأعادوا جمعَ أشعاره، ودرسوا حياته بدقةٍ متناهية، أمّا علماءُ النفسِ فلمْ يُفوّتوا على أنفسهم دراسةَ هذه الظاهرة المتوترةِ العجيبة، فدرسوا قصائده وسيرته التجاريّة في عدن والحبشة حتى خرجوا عنه، فيعدُّ رامبو اليومَ واحداً منْ بينِ أهمِّ خمسة منْ شعراء فرنسا الأكثر أهميّة في بلاده، ولعلّه من الشعراءِ الأكثر جاذبيّة للبحثِ والدراسةِ في العالم، ويكفي أنّ مجموعَ الكتبِ والدراساتِ التي تناولتْ سيرته وشعره قد تجاوزت ثلاثمائة كتاب!!.
والفرنسيُّون اليوم يطلقونَ على المراهقين الذين على شاكلة رامبو من الصعلكة والتهميش والمغامرة الجريئة (الرّامبِيَون) نسبة إلى هذا الشاعر العجيب، كما تحوّلتْ سيرُته وأشعاره –كما يقول محمد علي شمس الدين- إلى طريقةٍ وسهمِ انطلاقٍ وحالٍ من التدمير والتشويش بقصد (صفاء الرؤية) تماماً كما يحصل للأرض التي تصبح ناصعة بعد الطوفان، أو للحقل بعد الحريق.
لقد عاد رامبو اخيراً إلى موطنه فرنسا بعد أنْ فتك به المرض وهو بقايا انسان، مُحَمّلٌ على وثيرِ من الحرير، وحينَ وصلت الباخرةُ به إلى مارسيليا كان الصقيعُ يدبُّ في عروقه والألم يُدمّرُ خلايا جسدِه، وظلّ في منزله بين والدته وأخته حتى لفظ أنفاسَه الأخيرة عام 1891م، وهكذا انتهتْ سيرةُ مؤسّسِ الشعرِ الرمزي، الشاعرُ الذي تحوّل إلى رمزيّةٍ أُسطوريّةٍ في الذاك رةِ الإنسانيّةِ للتشرّدِ والصعْلكة، فلا يزالُ العدنيّون يُطلقون على الشاب المتهوّرِ أو المراهقِ الجموحِ بعبده رامبو، كما تحوّلت سيرتُه في الجرأةِ واقتحامِ المجهولِ وتحدّي الأخطار إلى أيقونةٍ رمزيّةٍ في السّينما العالميّة، فأطلقتْ هوليود سلسلةَ أفلامٍ حركيّةٍ تتخذَ من شخصيةِ رامبو بطولةً لحكاياتِ أفلامها، فنجحت هذه السلسلةُ السينمائيّة التي قام بأداء دورها الفنان الأمريكي الشهير سلفستر ستالوني، ولعلّ الفنان الكوميدي المصري الراحل محمد نجم قد استوحى منْ شخصيّة رامبو وأيقونة الصّعلكة كوميديا ساخرة لمسرحيّته الشهيرة التي أسماها: عبده يتحدّى رامبو!!.
وقبلَ أنْ تختمَ مقالنا عن أسطورةِ الشعرِ الرمزيِّ ينبغي أنْ نُلفتَ النظرَ إلى أنّ رامبو تأثرَ بالإسلامِ لدرجةِ أنّ بعضَ المؤرخين اعتقدوا أنّه ماتَ على الإسلام، فعندما زاره القسّيسُ المسيحيُّ في مارسيليا وهو ينازعُ الموتَ طرده ورفَضَ أنْ يُلقّنه القربانَ المقدّس، بلْ ظلَّ يُردّدُ باللغة العربية: الله كريم، الله كريم، تلك العبارة التي كان يسمعُها من البحّارة العرب، وهكذا انتهت حياةٌ مثيرةٌ لمؤسّسِ المدرسةِ الرمزيّةِ في الشعرِ الفرنسي.