أ.د.صالح معيض الغامدي
ومن أهم الأبعاد الأخرى التي تميز هذه السيرة البعد الاعترافي، فهذه السيرة تتضمن مجموعة من الاعترافات الجرئية التي وجد الكاتب في نفسه الشجاعة الكافية لسردها في سيرته، ولعل من أبرز هذه الاعترافات سرده لطبيعة العلاقة المربكة التي كانت تربطه بوالده، فعلى الرغم من اعترافه بفضل والده في جوانب تربيته وتنشئته وتعليمه وتكوين شخصيته، إلا أنه يقول «لم يكن والدي يوما راضيا عني، إذا لم أكن أظهر على حقيقتي أمامه. فالرعب الذي كان يستوطنني عند مواجهتي له، جعلني أبدو أمامه في منتهى الغباء والسطحية…. فالخوف من ردود أفعاله غير المتوقعة، الذي تملكني منذ الصغر، كان يلقي بظلاله على اجتماعاتنا ويبقيني أمامه بالصورة السيئة التي لم يحبها». وهذا الخوف الدائم من والده جعله أحيانا يتظاهر بالصرع لكي بنجو من العقاب لكن ذلك لم يدم كثيرا، فسرعان ما اكتشف الوالد هذه الحيلة. ومع ذلك فقد وصف الكاتب قسوة والده معه، كما ورد في عنوان الفصل الثاني بأنها «قسوة مبهجة».. لا تتشكل الصخور وتظهر معادنها النفيسة إن لم تقس عليها» والحقيقة أن الكاتب قد أدرك أن قسوة والده ما هي إلا مظهر من مظاهر حبه له، وإن كان هذا المظهر يبدو قاسيا كثيرا أحيانا» يقول: «كان لوالدي حضور مؤثر رافقني طوال مسيرتي، رغم الخوف الكبير الذي ألقى بظلاله على هذه العلاقة، وتسبب في فتورها وتوهجها على حد سواء؛ إذ إنني بقدر ابتعادي عنه في قسوته، بقدر ما كنت اقترب كثيرا منه عندما يحنو علي ويتلمس حاجاتي الإنسانية والعاطفية» ويصف شخصية والده بأنها «كانت شخصية عجيبة يجمع فيها بين كثير من المتناقضات». ومع ذلك نراه بعلق على وفاة والده بقوله «ولكم وددت لو أن الزمن يعود إلى الوراء لأكسر كل الحواجز التي كانت تفصلنا، وأتحدث معه، وأخبره عن إحساسي به كأب وأعترف له بمحبتي واعتزازي به».
وعلى الرغم من أن الكاتب يؤمن بأن تقييمه لذاته لا يرتبط بالآخرين وبآرائهم فيه، إلا أنه يستثني والده من هذا الحكم» واستثني من ذلك والدي فعلاقتي به خارجة عن إطار العقل والمنطق، ولها ظروفها ومسبباتها التي ذكرتها». والواقع أنني لم أجد في السير الذاتية السعودية تصويرا عميقا ومعقدا وصعبا لشخصية الأب كما وجدته في هذه السيرة، ولكن هذا التصوير من وجهة نظري هو تصوير صادق وصريح وعادل لشخصية الأب في السيرة الذاتية.
والحقيقة أن هذا البعد الاعترافي في هذه السيرة ما هو إلا بعد واحد من أبعاد الصراحة والمصداقية التي يلمسها القارئ وهو يقرأ فصولها، وهي في كل الأحوال ليست مصداقية كاملة قي كل شيء وإنما هي المصداقية الذاتية التي تقوم على الانتقاء والاختيار كما تملي ذلك طبيعة السيرة الذاتية، وقد كان الكاتب مدركا لذلك عندما استشهد بمقولة غازي القصيبي التي أوردها في سيرته الذاتية (حياة في الإدارة) «لا أدعي أنني قلت هنا الحقيقة كاملة، ولكنني أرجو أن ما قلته هنا كله حقيقة»، وعلق عليها بقوله «أنا كذلك، أرجو أنني لم أقل غير الحقيقة، وإن كنت لم أذكر كل شيء، محبة ورهبة». ولعل من المفيد أن نشير هنا إلى أن الحضور الكبير لسيرة غازي القصيبي هذه في سيرة الشريف، وربما كان ذلك لاشتراك السيرتين في التركيز على الجوانب الإدارية في حياة الكاتبين.
ومن الاعترافات الطريفة التي أوردها الكاتب في سيرته أنه استطاع لما كان طالبا في الجامعة «التحايل على النظام بتسجيل أسماء وهمية لم تكن تقيم في السكن» لكي يتمكن من الإقامة في غرفة بمفرده طوال أعوام الجامعة.
ومن الأمور التي تميزت بها هذه السيرة أن كاتبها قد أشار إلى جوانب الإخفاق في حياته العملية ربما بقدر الإشارة إلى الإنجازات التي حققها، فقد ذكر أنه تعثر في بداية دراسته الجامعية وكاد يخرج «خالي الوفاض بعد مرور ثلاثة أعوام بين تعديل التخصصات، وحمل عدد كبير من المواد… وظلت إخفاقات الماضي تطاردني حتى تخرحي… وتجاوزت هذه المرحلة الأشد صعوبة في حياتي»، وقد اعترف بأنه قضى سبعة أعوام من عمره لكي يحصل على الشهادة الجامعية ويتخرج بتقدير «جيد».
ويذكر أيضا أنه تخلى عن هوايته في ممارسة الفن التشكيلي من التصوير والنحت وغبرهما، وكان السبب في ذلك تدينه المفاجئ، يقول: «كل هذه الهويات اعتزلتها وقت تديني المفاجئ إثر وفاة والدي، لاعتقادي أنها فعل محرم؛ ما جعلني أتوقف أيضا عن التصوير…. وأقوم بإتلاف كل أعمالي السابقة والتخلص منها»، ويستنكر هذا الفعل الذي قام به آنذاك رغم شخصيته المتمردة منذ الصغر.
وهذه السيرة في جلها تسرد حقيقة تجربة الشريف الإدارية التي استغرقت معظم حياته العملية وما حققه من نجاحات وما واجهه من صعوبات وإخفاقات، ولكن نهايتها ربما لم تكن نهاية جيدة حقيقة، فقد ذكر الشائعات التي كانت تروج ضده والتي كادت، كما يقول، أن تهدم بيته وتشتت شمله هو وزوجته وأولاده خاصة بعد تركه منصب شؤون المعلمين ومنصب المستشار، فقد «أصبح الجميع يتواصى على التخلص مني مبكرا، حتى وصل بي الحال إلى أن أصبحت طرفة يتناولها شذاذ الآفاق، بعد تركي لمنصب المستشار». ويبدو لي أن من أهم أسباب كتابة هذه السيرة الذاتية أنها جاءت بمنزلة عمل تحريري استشفائي قام به الشريف ليتعافى من الآثار السلبية لبعض تجاربه الإدارية الصعبة التي عاناها خاصة من محيط العاملين معه، إضافة طبعا إلى الدوافع التقليدية الأخرى لكتابة السيرة الذاتية.
لقد حاولت في هذه القراءة الموجزة لهذه السيرة الذاتية أن أركز على الأبعاد التي بدت لي مختلفة اختلافا يميزها عن كثير من السير الذاتية السعودية، أما الجوانب الأخرى التي تشترك فيها هذه السيرة مع غيرها من السير مثل سرد مرحلة الطفولة واليفاعة وعلاقته بأسرته، وزوجته، وزملائه، وسرد تطوره الفكري والوظيفي وإنجازاته… وغيرها من الموضوعات المهمة، فإنها لم تكن محط اهتمامي في هذه القراءة الموجزة للسيرة، وإلا فهي جديرة بالاهتمام والدراسة أيضا.