هدى بنت فهد المعجل
في رسائل السجن لأنطونيو غرامشي تتجلّى تلك اللحظة التي يلتقي فيها العقل بالسجن، والروح بضيق الجدران، والإنسان باختباره الأكثر جذرية: أن يُنتَزَع من التاريخ، ثم يُطالَب رغم ذلك بفهمه، وتجاوزه، وإعادة كتابته. ليست الرسائل مجرد مراسلات شخصية، بل هي فضاءٌ يتكثف فيه الفكر في لحظة هشاشته القصوى، في الوقت نفسه الذي يبلغ فيه أعلى درجات حدّته. هنا، تبدو الكتابة فعل مقاومة داخلية، وانتصاراً صغيراً على تآكل الزمن، ومحاولة للحفاظ على معنى الذات في مواجهة العدم البطيء الذي يزرعه السجن في الروح.
تعيش رسائل غرامشي على الحدّ بين التأمل في العالم وتفكيكه. لا يسعى غرامشي، وهو يكتب من زنزانة باردة، إلى صياغة نظرية مكتملة، بل إلى إضاءة ذلك السؤال القديم الجديد: كيف يُعاد خلق الوعي في لحظة انهياره؟
إن اعتقاله لم يقمع فكره بل أعاده إلى جذره، إلى تلك الطبقة العميقة التي يختبر فيها الإنسان حدوده القصوى. هنا تظهر فلسفة غرامشي كبحث عن “الهيمنة” في معناها الأعمق: الهيمنة على النفس قبل المجتمع، وعلى الفكر قبل السياسة. فالسجن، عنده، ليس مجرد مكان، بل تجربة وجودية تجعل الإنسان يصطدم بحدود المعنى، فيعيد ترتيب علاقته بنفسه وبالعالم.
نرى أن الرسائل تنكشف كحوار داخلي متوتر بين اليأس والصلابة. غرامشي لم يكن بطلاً حديدياً، ولا يدّعي ذلك. هو يكتب عن صحته المتدهورة، وعن آلامه، وعن خوفه من النسيان. لكنه في كل ذلك يحافظ على توترٍ خلاّق بين الرغبة في الصمود والخوف من الانهيار. في سطوره نلمح ما يشبه “استراتيجية بقاء”: تحويل الألم إلى معرفة، وتطويع العزلة لتصبح مختبراً للوعي لا مقبرة له. في هذه الناحية، تمثل الرسائل درساً نفسياً في كيفية إعادة بناء الذات حين تصبح مكشوفة أمام أقسى ظروفها. فغرامشي يكتب لتثبيت ذاته، ولمنح جسده المريض معنى، ولإبقاء عقله في حالة حركة حتى لو توقف العالم من حوله.
نجد أيضًا أن تلك الرسائل تشكل لحظة مواجهة بين المشروع الثوري وبين واقعه التاريخي. كانت الحركة الشيوعية الأوروبية تعيش مفترقاً حرجاً، وغرامشي -المسجون تحت فاشية موسوليني- يُدرك أن الأفكار تتكلس حين تنفصل عن التجربة. ولذلك تأتي رسائله كنوع من المراجعة الهادئة، مراجعة لا يسعها الصراع السياسي العلني، فتنضج داخل الصمت. ولعلّ أهم ما يفعله في هذه الرسائل هو تفكيك المسلمات التي رافقت الماركسية في زمنه: نقد الفكر الآلي، نقد القدرية التاريخية، نقد التصورات التي تحوّل الشعب إلى كتلة دون إرادة. كأن السجن منح غرامشي حرية من نوع آخر: حرية التفكير في ما لا يمكن التفكير فيه في صخب السياسة.
أسلوب الكتابة نفسه يحمل قيمة نقدية، فهو غير رسمي، لا يدّعي العمق لكنه يغوص فيه، لا يكتب بنبرة الأستاذ بل بنبرة الإنسان الذي يحاول فهم الحياة قبل أن يتحدث عن الثورة. لهذا تكتسب الرسائل طابعاً أدبياً فريداً: مزيج من الدفء والمرارة، من الحسّ الأبوي والحكمة الجريحة، من الرقة التي لا يجرؤ عليها المنظّرون عادة. النص هنا ليس مجرد حُجّة، بل حالة شعورية، ووعي يتنفس عبر الكلمات.
إذًا؛ تمثل رسائل السجن لحظة إنسانية كاملة: فلسفة مكتوبة بالألم، تحليل نفسي مقاوم للعزلة، ونقد سياسي ينمو في تربة الظلام. إنها مثال على كيف ينتصر الفكر حين يُسلب كل شيء، وكيف ينجح الإنسان، في أكثر لحظات ضعفه، أن ينتج معرفة لا تزال قادرة على تحدي العالم. إنها شهادة على أن السجن قد يحطم الجسد، لكنه حين يواجه عقلاً مثل عقل غرامشي، لا يزيده إلا قدرة على الرؤية.