د. شاهر النهاري
في مشهد الثقافة الفنية العربية اليوم تبدو برامج اكتشاف المواهب كخيم سيرك ملونة تُنصب على عجل في ساحات الخريف، تلمع قماشاتها في الضوء لكنها تهتز وتسقط مع أول نسمة فحص عاقلة.
مسابقات بهرجة تُرفع فيها الرايات قبل أن يُرفع فيها مستوى الفن، وتُشعل فيها الأضواء قبل تأصيل المعرفة، وتظهر فيها لجنة التحكيم كأنها فرقة استعراضية لا مجلس حكمٍ في محكمة الفن.
كل شيء لامع… إلا الحقيقة. وكل شيء حاضر… إلا المنهج.
تخيل قاضياً يدخل المحكمة كما يدخل المقهى، بلا ملف، بلا كتاب قانون، بلا تاريخ في المرافعات، وبلا ميزان معرفة يدرك به الفرق بين البراءة والاتهام.
أي مدينة ستنجو من أحكامه؟ وأي مواطن سيعبر محكمته مطمئنًا؟
إن الحَكَم حين يفقد علمه يصبح كمن يمشي في الظلام يحمل فتات شمعة، لا يضيء للناس ولا يعرف طريقه.
وتخيّل حَكم كرة قدم لم يركل كرة في حياته، يقف في الملعب متحيزا هاتفا، بقلة وعي في مراقبة وتحليل اللعب، يطلق صافرات ظلم لا يقبلها المنطق.
فهل يمكن أن تُبنى بطولة فوق بهرجة جهل؟ وهل يمكن أن تُصنع نجومية بلا معرفة لأصول اللعبة؟
تلك الصور ليست مبالغات، بل شبابيك وعي نطل منها على واقع لجان التحكيم في البرامج الفنية العربية المتعددة.
لجان فيها حالات نادرة تُحترم، ولكن الأغلبية مجرد نجوم حظ عليهم ملاحظات ومحاذير فنية، أصواتهم أعلى من معرفتهم، وحضورهم يسبق قدراتهم، وفائدتهم أقل من أن تضيء.
التحكيم هنا يتحول إلى استعراض لجماهيرية أعضاء اللجنة، وخروجهم على الهدف، نقد يبالغ مرات، ويسقط مرات، وفقرات طريفة واستظراف، ومجون، ونصائح سطحية منمقة مفرغة من الأصالة والفائدة.
الحَكَم السطحي الانفعالي العشوائي لا يرى إلا صورته مضخّمة على الشاشة.
في السابق، كانت تجربة مثل “أستوديو الفن” نادرة كالمرايا الصافية التي تعكس الوجه الفني بلا تزويق.
لجان محترفة أكاديمية، وأساتذة تعليم تعبوا، وصعدوا سلم الموسيقى درجة درجة، وعرفوا وعشقوا خشبات المسرح وما خلفها، حكام يدركون الفرق بين الصوت والصدى، وبين النبرة والأداء، وبين الموهبة العميقة وضجيج التقليد والبريق.
حينها فقط كان التحكيم أشبه بمقاييس الذهب: لا يجامل، لا يرقص، لا يعلو صوته مغنيا فوق صوت الحقيقة.
أما فيما تبعها من المسابقات، فالصور مغايرة بهشاشتها.
عضو لجنة لم يصدق أنه أصبح مشهورا، يغني مع المتسابق كمن يريد أن يختبر صوته لا صوت الموهبة. والآخر يرقص طربًا كأنه يستمتع بحفل خاص، متناسيا مسؤولية مستقبل مواهب، ومستقبل الأغنية العربية.
وثالث يرفع حاجبيه ويلوّن عباراته متفلسفا بعمقٍ مصطنع، والخروج عن الذوق يتكرر، والكل يعلم أنه لم يغُص يوما في كتاب موسيقى، ولم يكن يوما أكاديميا بصيرا بأسس الفن الضرورية وأمانتها. ويخرج المتسابق من التجربة مثل بالونة نفختها ريح البرنامج، ثم تركتها تتلاشى عقب انطفاء الأضواء.
المتسابق يُعذر، فلم يتلقَّ دروسًا في احترام الوقوف على المسرح، ولم يعرف الفرق بين المقام والطبقة، ولم يسمع من اللجنة سوى صدى تغريدات وتصفيق من جمهور يعشق الأضواء. وهكذا يتحول فنان المستقبل لشعلة تلفزيونية، تخبو بدقيقة.
وكثير من المواهب تمضي بغرور الوهج بعد البرنامج، فينزلقون على جمرٍ ظنوا أنه ذهب.
المشكلة ليست في المتسابقين؛ بل في المنهج. فالبرنامج الذي يبحث عن المواهب الحقيقية لا بد أن يهيئ لهم عقول حكام يصقلونها، وأن يكون آخر همه التصويت.
منهج لا تعليم أساسي متين فيه، ولا ورش تدريب مكثفة، ولا تحليل صوتي خبير، ولا ثقافة موسيقية وفنية مشبعة.
في برامج المسابقات يتحول الفن إلى لعبة حظ أو بطاقة يانصيب، ثم إلى مسار شهرة مفتعلة بالتقليد تشبه السير على الحبال بين جبال، مغامرة يريد لها التلفزيون السرعة، والإثارة، طمعا في التصويت الذي يدر الأموال على خزائنه حينما يصبح الهاوي مصدرا للربح، لا مشروعًا للنهضة الفنية العربية.
الصورة لا يجب أن تبقى هكذا
والحل موجود، لكنه يحتاج شجاعة وإخلاص لروح الفن، باختيار لجان تحكيم نصفها أكاديمي ونصفها فنانين تعمق وخبرة، تشكيلة أقرب للتمكن في الحكم على قيمة المواهب.
لجان يكون فيها من يعرف قواعد الموسيقى كما يعرف الطبيب تشريح الجسد، ومن يعرف الأداء المسرحي كما يعرف الجندي حفر خنادقه وترتيب خطواته، ويخلص الجميع في صناعة فنية كما البنّاء ينشئ أساس مبناه.
حكام أكاديميين، وحتى لو لم يكن لهم من الوهج الكثير، ولكنهم أجدر وأقدر على خلق موازين عدالة لا تميل فيه الكفة ناحية الشهرة ولا ناحية الجماليات الشكلية، وباجتماع قلب الفن وعقله.
وزارات الثقافة المعنية وأكاديميات الفنون لا بد لها من تبوء مواقعها المؤصلة في خلق النجوم حتى ولو طالت وكلفت عمليات اعدادهم.
ولا يجوز للفن أن يستمر لقطات حماس في برامج تلفزيونية مرسومة، تبحث عن مواسم ربح ت ستحثها أنصاف المواهب يضغطون على أهاليهم وأوطانهم للتصويت المتحيز.
مسابقات تقوم على شراكات ثقافية أكاديمية، ورقابة، وإشراف، ومناهج واضحة، وإلا فسيظل مشهد الضعف ذاته يتكرر.
إن الأمة التي أنجبت عمالقة التلحين والعزف والكتابة والموسيقي والمسرح والغناء لا يجوز أن تكتفي بصدى تقليد باهت مؤقت في خلفيات الشاشة.
الفن مهمة صعبة وحفر في الصخر وتدرج علمي رصين، وبما هو أكبر من نجومية مواقع التواصل، بل أعظم من التصويت، وأعمق من خداع الكاميرا.
إنه حرفة الطموح، وعلْم القدرة، ورسالة لا يحملها أنصاف الفنانين.
ولن يُصنع فنان حقيقي ما دام المسرح أعور، والمرآة مشروخة.