د.نادية هناوي
على الرغم من أن علومًا إنسانية مثل اللغة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع، وفنونًا مثل النحت والتصوير والمسرح والسينما هي في غنى عن إقامة صلات مباشرة مع النقد الأدبي، فإن النقد بحاجة ملحة إلى عقد الصلات مع هذه العلوم والفنون. إذ لا حياة للنقد من دون أن يمدَّ جسورًا معرفية، تجعله على تواصل دائم مع متغيرات العلوم ومستجدات الفنون بأنواعها وأشكالها.
ولقد بلغ النقد الأدبي العربي في العصور العباسية أوج صلاته مع ما كان سائدا من حركة علمية وفكرية وثقافية داخل البلاد العربية الإسلامية -على سعتها وامتدادات حضارتها-، بيد أن الأمر تغير في العصر الحديث؛ فلم تعد صلات النقد العربي تمتد سوى في إطار ما تسمح به مناهج بعينها، وفي نطاق ما تتطلبه نظريات واتجاهات وتيارات، ينحاز إليها الناقد، لأنه يجد فيها بغيته في تحليل النصوص وشرحها وتأويلها. وهذا انعكاس طبيعي لما شهده النقد الغربي -بمدارسه الأوروبية بدءا من الشكلانية وانتهاء بالمدرسة البنيوية- من وقوف عند علوم اللغة والبلاغة واللسان من دون إيلاء عنايةٍ بالعلوم والفنون الأخرى ولاسيما التي لا تزال مستجدة وفتية، وفيها مساحات يمكن أن تُغني البحث النقدي وتعمِّق التفكير في نقد جماليات الأدب.
صحيح أن المدرسة البنيوية انكفأت على نفسها وتحولت إلى الانفتاح والتداخل، لكن علمي اللسانيات والعلامات بقيا مهيمنين عليها. وكان لانبثاق المدرسة الأنجلوامريكية في ثمانينيات القرن العشرين أن ساهم في مراجعة المناهج ونقد النظريات اللسانية والبنيوية والسيميائية، بحثا عن الهنات ورغبة في اكتشاف مواطن تسمح لهذه المدرسة بالتصدر عالميا والتميز بابتكار مفاهيم ونظريات مغايرة وجديدة. وكان من ضمن النتائج المتحصلة في هذا المجال، اتخاذ منهج التعدد الاختصاصي أداة مهمة من أدوات المنظرين والنقاد من أجل إعادة الثقة وتأكيد الصلة بين النقد الأدبي والعلوم والفنون المختلفة، لا من ناحية تماس النقد الأدبي معها تماسا معرفيا حسب، بل أيضا المساهمة في تطويرها والإضافة إليها استنادا إلى ما في النقد الأدبي من قوانين وفرضيات يمكن أن تفيد المتخصصين في تلك العلوم والفنون، وتدفع بهم نحو الابتكار والتجديد على مختلف المستويات.
وواحدة من التجارب النقدية المهمة في توظيف التعدد الاختصاصي، تتمثل في توجهات المنظر الألماني جان ألبر نحو عقد الصلة بين نقد السرديات ما بعد الكلاسيكية ونقد الفن السينمائي عبر ابتداع منهج نقدي ضمن علم سردي محدد هو(علم السرد السينمائي). وأطلق ألبر على المنهج المبتدع اسم (القصد الافتراضي) ويعني الارتكان إلى وجود نية أو سريرة افتراضية يمتلكها مؤلف الفيلم السينمائي أيا كان مخرجا أو سينارستيا أو منفذا. واستمد مرجعياته النقدية من دراسات الان بالمر وسيمور تشاتمان وسي دينيت صاحب مفهوم «الوضعية القصدية» ويعني استراتيجية في تفسير سلوك الشخصية ( إنسان، حيوان، قطعة أثرية، أي شيء آخر) من خلال التعامل معها كما لو كانت نائبة عن المؤلف، اختارها للقيام بفعل يجسد من خلاله ما لديه من معتقدات ورغبات.
ويسعى ألبر من خلال ذلك إلى إثبات وجود( صانع افتراضي للفيلم أي مسؤول عن إنتاجه، هو عبارة عن كينونة فردية، إليها يسند المشاهِد الدوافع والنوايا الواعية أو غير الواعية. وتتوزع في هذه النوايا والدوافع سبل تفسير الفيلم وطرائق تصميم الرؤية والصوت داخله).
هذا ما جاء في دراسة ألبر الموسومة بـ(القصد الافتراضي: إعادة النظر في السرد السينمائي) والمنشورة ضمن كتاب (علم السرد ما بعد الكلاسيكي: مناهج وتحليلات) وهو من تحرير جان البر ومونيكا فلودرنك وصدر عن جامعة أوهايو عام 2010.
وافتتح ألبر دراسته بتتبع ما للسرد السينمائي من مدارس نقدية ثلاث: الأولى يمثلها ديفيد بوردويل الذي يرى أنَّ السرد موجود في بناء الفيلم، لكنه يفتقر إلى وجود سارد سينمائي، وأنَّ الصور والأصوات هي التي تعوِّض عن غياب ذاك السارد. وهو أمر غير وارد بطبيعة الحال في بناء القصص والروايات. والمدرسة الثانية هي مدرسة سيمور تشاتمان الذي يذهب إلى أنَّ الأفلام تُروى بواسطة سارد سينمائي، مهمته التنظيم والإبلاغ والعرض. ولم يشترط تشاتمان وجود السارد دائما؛ فثمة أفلام تُروى من دون وجود سارد سينمائي.
ويمثل جورج ويلسون وميكايلا باخ وبيريس غوت المدرسة الثالثة التي تذهب إلى أنَّ ثمة ساردا ضمنيا يتوسط ما بين الفيلم والمشاهد، مهمته توجيه انتباه الأخير نحو القضايا المهمة، وبذلك يكون هذا السارد مرشدًا، وهذا ما يرفضه مانفريد يان الذي يرى أنَّ السارد الضمني مجرد صانع للفيلم كما يتجلى في الفيلم نفسه غير أن «جهاز التكوين السينمائي (FCD)» هو الكيان النظري الكامن وراء صناعة الفيلم تنظيما وترتيبا، ومن ثم لا حاجة إلى الارتباط بأية شخصية من شخصيات الفيلم ولا حتى واحدًا من صنّاعه كأن يكون المخرج أو السينارست.
إن ما يراه جان ألبر في هذه المدارس الثلاث أنها تقليدية تجادل ضمن نطاق محدد متعلق بوجود السارد أو عدمه، وهذا ما يجعل تحليل الفيلم متمركزا بالدرجة الأساس (على الأسس المفاهيمية للسرد السينمائي، بدلًا من التركيز على كيفية تطوير مفاهيم السرد السينمائي بطريقة تكون مُجدية في عملية تفسير الأفلام. إذ يحاول بعض المنظّرين التحقق من ادعاءاتهم المتعلقة بالسارد السينمائي بناءً على أمرين: الأول يُسمى «الحجة القبلية» على فرضية أنَّ السرد بدون سارد لا وجود له لأن الأول يعتمد مفاهيميًا على الآخر، والأمر الآخر يُسمى»حجة وسائل الوصول» ويعني أن الشخصية الخيالية للسارد، يمكنها أن تمنحنا وصولًا إلى العالم السردي المتخيل).
وما يسعى إليه جان البر في هذا الصدد هو مراجعة مقولات السرد السينمائي من أجل الإجابة عن سؤال: هل يساعد مفهوم السارد السينمائي في الوصول إلى قراءات أو تفسيرات مناسبة وصائبة للأفلام؟
تكمن الإجابة- بحسب ألبر- في علم النفس الشعبي أو العامي (folk psychology) الذي بإمكانه أن يساعد الناقد في معرفة الطريقة التي بها يَفهم المشاهدون الأفلام. وبهذا يجمع جان ألبر بين ثلاثة تخصصات هي: النقد الأدبي وعلم النفس وصناعة الأفلام، وبهذا التوليف العلمي- التقني يُعاد الاعتبار إلى صلات النقد الأدبي بالفن السينمائي من جهة، وتُختبر من جهة أخرى فاعلية «صانع الفيلم الضمني» و»السارد السينمائي» من ناحيتين: الأولى دور كل واحد منهما في البناء السينمائي للفيلم، والثانية دورهما في نقد السرد السينمائي، ولكن كيف يمكن إزاء هذا التوليف التخصصي أن يكون لمنهج القصد الافتراضي دور في قراءة الأفلام السينمائية؟
يرى ألبر أننا عادة ما نسعى في تفاعلاتنا اليومية إلى فهم الآخرين من خلال افتراض حالات أو ميول معينة فيهم، وعليها نبني نحن تفسيراتنا. ومن المؤكد أن هذه التفسيرات تتأثر أيضا بما نملكه من وعي، يسمح لنا بالتأقلم بذكاء مع ما نشاهده ونسمعه في محيطنا البيئي، فنكون قادرين من ثم على شرح سلوك الأشخاص من خلال ما يعرضونه لنا من أفكار ومعتقدات ورغبات، والأمر عينه ينطبق على مشاهدتنا لشخصيات الفيلم وهي تتكلم وتتحرك، فتتكون لدينا انطباعات تسمح بفهم وجهات نظرها فهما أدبيا. يقول البر: (أود أن أقترح أنه عند مشاهدة فيلم، يحاول معظمنا معرفة ما يعنيه الفيلم أو ما «يحاول قوله».. أن أساس المسألة له صلة بطرح السؤال «لماذا»، ثم السعي للحصول على تفسير ما مقنع).
ويضرب ألبر أمثلة على ذلك بأفلام ألفريد هيتشكوك وستانلي كوبريك وفريتز لانج، إذ يصعب على المتلقي تحديد نوايا صنّاعها بشكل نهائي، وهذا على عكس قراءة القصة أو الرواية التي فيها يكون المؤلف والسارد حاضرين، ما يسهِّل على القراء فهم وجهات نظر الشخصيات. ومعلوم أن الفيلم ليس نصا كتابيا، بل هو عملية معقدة تقنيًا (لدرجة أنه لا يمكن إنجازه إلا من خلال عملية إنتاج معقدة يعمل فيها عدة محترفين: مؤلف السيناريو، المنتج، المخرج، المحرر، الممثلون والممثلات، المصورون، مديرو الصوت، إلخ) من هنا يغدو مستحيلا - بحسب البر- معرفة ما إذا كانت تفسيراتنا تكشف عن نوايا هذا الجمع من المحترفين الذين أنتجوا الفيلم أو لا. ويمكن القول: إن الأمر سيكون مستحيلًا بالقدر نفسه حين يكون الأمر متعلقا بواحد من هؤلاء كأن يكون المخرج مثلا.
ولقد أوصل مفهوم القصد الافتراضي جان البر إلى الوقوف وسطًا بين القائلين بوجود سارد سينمائي وبين القائلين بوجود سارد ضمني. وما خرج به ألبر من هذه الوسطية هو إمكانية افتراض وجود سارد حقيقي هو صاحب النية في صناعة الفيلم. وإذا كان واين بوث قد حدد المؤلف الضمني ذاتا ثانية تكشف عن نوايا المؤلف بوصفه ذاتا أولى، فإن جان البر حدد السارد الحقيقي بأنه شخصية تجلس في كرسي المؤلف الحقيقي، وتقوم بصناعة الفيلم بناءً على ما للمؤلف من منطق أو منظور.
ولا تبدو فرضية القصد الافتراضي بالمقنعة حتى بالنسبة إلى ألبر نفسه الذي بدا غير متأكد تماما من صحتها. ولهذا حاول دعم منهجه بمقترح ديفيد هيرمان، المتمثل بتجاوز مفهوم «القصد» لكل من المؤلف وصانع الفيلم أي تجاوز النهج الذي يستند إلى التكهن بنواياهما كأمور ذهنية، والتوجه بدلا من ذلك نحو فهم إنتاج السرد نفسه وتفسير أنظمته بشكل يقبل الدحض حول نوايا كل من المؤلف وصانع الفيلم بالنسبة إلى الجمهور المتلقي. يقول البر:(افتراضي الأساس هو أننا جميعًا نسند نوايا أو دوافع معينة إلى الأفلام من أجل تفسير ما قد تعنيه. فعندما نشاهد فيلمًا، نتعامل معه على أنه قراءة لفهم عقول الشخصيات ومع ذلك، فإننا لن نكون أبدًا متأكدين من أننا فسرنا الفيلم بشكل صحيح).
وفي تقديرنا الشخصي لهذه الجدلية، فإنَّ غلبة الفضاء البصري للفيلم على المشاهد، هو الذي يجعله في مواجهة مباشرة مع شخصية أو شخصيات الفيلم. فيوجه إليها انتباهه، وحولها يبني تصوراته المعينة من دون أن يكون له اهتمام مماثل بمن أسند إلى هذه الشخصية الأفعال والأقوال أو من ساهم في تعزيز صورتها بالمؤثرات السمعية والمرئية.
ومهما كانت للمؤلف أو صانع الفيلم نوايا مبيتة أو مفترضة أو دوافع معلنة وغير معلنة، فإن تفسيرات المشاهد لأحداث الفيلم ستبقى متمركزة بشكل أساس على شخصية الممثل الذي يؤدي دور البطولة أو مجموعة الشخصيات التي تتقاسم البطولة داخل الفيلم، وبهذا نستغني عن الجدل حول وجود السارد السينمائي أو عدمه كما نتجاوز إخفاقات التفسير المبني على وجود سارد وسيط أو ضمني؛ إذ مثلما نريد أن نطبِّق مفاهيم السرد على تفسير صناعة الفيلم السينمائي، فكذلك علينا أن نفيد من مفاهيم السينما في تفسير البناء السردي للرواية والقصة، وهذا الأخير كانت المدرسة ما بعد البنيوية قد أخذت به. وما يفترض بمنظري السرد ما بعد الكلاسيكي عمله هو تعزيز الصلات ما بين علم السرد وصناعة السينما. هذه الصلات التي تكاد تكون غائبة عن أذهان كثير من المتخصصين الذين يتصورون أن نقد الأدب شيء، ونقد الفيلم السينمائي أو نقد الفنون التشكيلية أو نقد العروض المسرحية شيء آخر.