د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
واصل فهد عاشور في القسم الرابع من مقدماته القول بأن أول «المراحل المبكرة للغة العربية في جنوب بلاد الشام (مسقط رأس العرب) في أوائل الألفية الأولى قبل الميلاد. أقدم نص تم اكتشافه حتى الآن مكتوبا بلهجة عربية شمالية قديمة هو نقش من العصر الحديدي عثر عليه في منطقة (بايز) قرب وادي السرحان في جنوب شرق الأردن.
إن مسقط رأس اللغة العربية - على الأرجح، ووفقا لما تقدمه أدلة النقوش - في منطقة حوران وفي البوادي المحيطة بها البادية السورية والبادية الأردنية، وليس في الحجاز أو في نجد أو في اليمن أو في أرض العالية. لكن هذه اللغة ليست اللغة الفصحى، وليست لهجة أو تنوعا لغويا يمكن اعتباره سلفا لها»(ص10-11). نعم النقش، إن صح، قرب وادي السرحان؛ ولكن ناقشه قد يكون راحلًا من الحجاز أو نجد أو اليمن، وهو يصف عربية النقش بأنها لا يمكن أن تكون سلفًا للفصحى، وكأن الفصحى بذلك لغة غير عربية.
وكل ذلك سعي للقول بأنها مخترعة مصنوعة. ولذا قال «نشأت اللغة الفصحى التي نعرفها اليوم مع ولادة النثر العربي في القرن الـ 2هـ / 8م. أقدم الأدلة التي تقدمها مؤلفات العصر العباسي على وجود هذه اللغة، قبل هذا التاريخ، هي لغة الشعر الجاهلي ولغة القرآن، يطلق الدارسون على لغة الشعر الجاهلي ولغة القرآن مسمى «العربية القديمة Old Arabic تمييزا لها عن اللغة الفصحى، التي يطلقون عليها مسمى «العربية الكلاسيكية Classical Arabic» (ص 11). وحسبك بهما، وهما في مستوى من الجزالة والبيان يشير إلى بعد تاريخي مديد لهذه اللغة، وربما خلط المؤلف بين اللغة والتدوين الذي ازدهر في القرن الثاني، وأما أثناء نزول القرآن فكان كتاب الوحي يدونونه على ما تيسر لهم من أدوات كالعظام والجلود ونحوها حتى هدى الله أبا بكر إلى جمعه في مصحف.
راح المؤلف يشكك في وجود الشعر الجاهلي اعتمادًا على التدوين، قال «فالشعر الجاهلي لم يصل إلينا مكتوبا من العصر الجاهلي. لم يعثر على دليل كتابي واحد (نقش بردية، مخطوط)، ينتمي للفترات الزمنية التي سبقت العصر العباسي يتضمن بيتا شعريا واحدا من أبيات الشعر الجاهلي، أو شعر المخضرمين، أو الشعر الأموي».
والجواب من البدهيات المعلومة فالعرب كانت أمة شفاهية عامية لا تعتمد في مروياتها على الكتابة، ويذكرنا هذا بحال الشعر النبطي الذي تناقله الناس شفاهًا وما زال إلى يومنا يروى شفاهًا إلا ما تيسر تدوينه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقرأ أو يكتب، وكان الكُتّاب قلة. وظل تناقل القرآن يعتمد على الرواية الشفوية، وقيل (العلم ما وعته الصدور لا ما حوته السطور.)
التفت إلى لغة القرآن الكريم لينفي صلتها بلغات العرب، قال «يتفق الدارسون الغربيون على أن اللغة التي نزل بها القرآن لم تكن لهجة تكلمتها أية قبيلة من قبائل العرب قبل الإسلام وهي النتيجة ذاتها التي خلص إليها جواد علي بعد مناقشة مستفيضة لأسطورة نزول القرآن بلهجة قريش يمكن وصف لغة القرآن بأنها لغة دينية، لكن لا يمكن وصفها بأنها لغة بشرية طبيعية Natural Human Language»(ص 12)، وما ذهب إليه هو أو غيره مناقض للغرض من الرسالة، إذ هي مرسلة إلى العرب أولًا فلا بد أن تكون بلغتهم، قال تعالى « وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» [إبراهيم-4]، ومعلوم عند علماء العربية أن القرآن متضمن بعض لغات العرب، دونوا ذلك في كتب متقدمة مثل «ما ورد في القرآن الكريم من لغات القبائل لأبي عبيد القاسم بن سلام»، و» كتاب اللغات في القرآن لإسماعيل بن عمرو المقرئ».
ومن المحدثين «لهجات العرب في القرآن الكريم: دراسة استقرائية تحليلية» لعبدالله عبدالناصر جبري، وقال السيوطي «وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ فِي كِتَابِهِ: الْإِرْشَادُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ: فِي الْقُرْآنِ مِنَ اللُّغَاتِ خَمْسُونَ لُغَةً: لُغَةُ قُرَيْشٍ وَهُذَيْلٍ وَكِنَانَةَ وَخَثْعَمَ وَالْخَزْرَجِ وَأَشْعَرَ وَنُمَيْرٍ وَقَيْسِ وعيلان وجرهم واليمن وأزدشنوءة وَكِنْدَةَ وَتَمِيمٍ وَحِمْيَرٍ وَمَدْيَنَ وَلَخْمٍ وَسَعْدِ الْعَشِيرَةِ وَحَضْرَمَوْتَ وَسَدُوسٍ وَالْعَمَالِقَةِ وَأَنْمَارٍ وَغَسَّانَ وَمَذْحِجٍ وَخُزَاعَةَ وَغَطَفَانَ وسبأ وعمان وبنو حَنِيفَةَ وَثَعْلَبَةَ وَطَيِّئٍ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَأَوْسٍ وَمُزَيْنَةَ وَثَقِيفٍ وَجُذَامٍ وَبَلِيٍّ وَعُذْرَةَ وَهَوَازِنَ وَالنَّمِرِ وَالْيَمَامَةِ. وَمِنْ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ: الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالنَّبَطِ وَالْحَبَشَةِ وَالْبَرْبَرِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ وَالْعِبْرَانِيَّةِ وَالْقِبْطِ»(1)، وأما ما نسبه المؤلف إلى جواد علي فغير صحيح، إذ يقول جواد علي «أما لو سألتني عن لغة القرآن الكريم، فأقول: إن القرآن قد ضبطها وعينها، إذ سماها {لِسَانًا عَرَبِيًّا}، واللسان العربي هو لسان كل العرب، لا لسان بعض منهم، أو لسان خاصة منهم، هم قريش، ولو كان هذا اللسان، هو لسان قريش لنزل النص عليه في كتاب الله»(2).
ويعلل المؤلف زعمه بقوله «لأن اللغة الطبيعية، في أبسط تعريف لها، هي اللغة التي يكتسبها مستخدموها بصورة طبيعية كجزء من عملية النضج والتنشئة الاجتماعية دون تعليم أو توجيه، ودون أن تتم صناعتها خصيصاً(3) لأغراض عامة أو خاصة.
تظهر اللغة الطبيعية في أي مجتمع بشري بشكل طبيعي من خلال الاستخدام والتكرار، وتكون قابلة للتغير بصورة طبيعية دون تخطيط واع. هذه التحديدات لا يمكن أن تنطبق على لغة القرآن»(ص 12). لغة القرآن ولغة الشعر العربي لغة مشتركة يستعملها العرب جميعًا؛ ولكنها لا تلغي لغاتهم الخاصة، وهذا أمر مشاهد في كل اللغات فهناك لغة عامة وهناك دوائر من الاستعمال تتسع وتضيق حسب المستعملين.
واللغة الفصيحة لغة قابلة للتغير والعلماء والدارسون اثبتوا هذا في مؤلفاتهم وبحوثهم، ثم يسأل محتجًّا بسؤال غريب قال «إذا كان العرب قد تكلموا لغة القرآن بصورة طبيعية قبل الإسلام، فلماذا ظهرت القراءات القرآنية، إذن»(ص 12)، والجواب أن ذلك رحمة بالعباد، فنزل الوحي بسبعة أحرف كما هو مشهور، وهذا عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم اختلفا في القراءة وهما قرشيان(4). ثم قال «وكيف يُعقل أن تترك لهجات القبائل أثرها على لغة القرآن، بينما لا نجد أثرا واحدا للغة القرآن في لهجات القبائل العربية «(ص 12)، والجواب أن لغة القرآن لغة مشتركة وليس فيها ما يخالف لهجات العرب.
ويزعم المؤلف أنه «تمتلك لغة القرآن خصائص لغوية مميزة لا توجد في أي مصدر لغوي آخر»، وأنه «زعم النحاة والمفسرون، منذ وقت مبكر، أن القرآن نزل باللغة التي تكلمها العرب في ذلك الوقت» ثم قال «التعميمات التي يروج لها سيبويه والطبري مضلّلة بنسبة كبيرة. لأن فهم اللغة شيء، وتكلم اللغة شيء آخر مختلف تماما، في اللسانيات النفسية Psycholinguistics واللسانيات العصبية Neurolinguistics هناك تمييز واضح بين إنتاج اللغة language production وفهم واستيعاب اللغة language comprehension يمكننا فهم الكثير من اللغة التي تخاطب بها، حتى لو كانت معرفتنا باللغة محدودة، لكننا لن نتمكن من تكلم اللغة من دون معرفة واسعة بمنطقها وقواعدها ومعجمها، في عصرنا الراهن» (ص 13)، وما ساقه عن اللسانيات النفسية والعصبية قد يكون صحيحًا في ذاته؛ ولكنه لا يعشي عيوننا عن الحقيقية، وأقول له دونك الشعر الشعبي يفهمه الناس ولكنهم قد لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، والزعم بأن الناس لا يستطيعون تكلم لغة القرآن زعم باطل، نعم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، ولكنهم يستعملون أجزاء من آياته في كلامهم مثل (الحمد لله) و(سبحان الله) و(بسم الله الرحمن الرحيم)، ومعظم مفردات القرآن مستعملة في لغتهم.
وقال «لا يتكلم العرب لغة القرآن، لكنهم قادرون بنسب متفاوتة، على فهمها. وهم لا يتكلمون اللغة الفصحى، أيضا، لكنهم قادرون بما في ذلك الأميون منهم، على فهم نشرات الأخبار التي تقرأ عليهم بهذه اللغة»(ص 13). يريد بهذا الإيحاء أن لغة القرآن ليست فصيحة وأن اللغة الفصحى ليست طبيعية لأن الناس لا يتكلمونها، والصواب أنهم يتكلمونها بالقدر الذي يستطيعون.
وقال «لغة القرآن فريدة من نوعها في التاريخ اللغوي لجزيرة العرب، وهي ليست اللغة الفصحى ذاتها، كما ادعى النحاة ومفسرو القرآن في العراق. لم يقل القرآن إنه قد نزل بـ(لسان عربي فصيح). تحديد كهذا لا يرد في كامل النص القرآني»(ص 14)، نعم لم يقل ذلك ولكنه قال «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» [الشعراء-195] والبيان أعم من الفصاحة، وجاء في التفسير «قريش وجرهم {مبين} فصيح»(5).
وزعم أنه «توجد اختلافات كتابية وصوتية وصرفية ونحوية ومعجمية وأسلوبية بين لغة القرآن واللغة الفصحى لا يمكن تجاوزها»(ص 14)، وباستثناء اختلاف رسم المصحف عن الرسم الإملائي لا أعلم شيئًا من هذه الاختلافات، وأما ما نسبه إلى أستاذنا محمد عبد الخالق عضيمة أنه أحصى «مئات من الأدلة التي تثبت عجز قوانين اللغة الفصحى عن تمثيل النظام اللغوي القرآني تمثيلًا دقيقًا وشاملًا» فهو غير دقيق والقرآن لغة واللغة أوسع من قواعدها إذ نجد في الشعر ما لا تنطبق عليه القواعد لأن القواعد إنما انتزعت من جمهرة الاستعمال العربي. ومهما يكن فلا يعني هذا بحال أن لغة القرآن لم تأت على اللغة الفصحى. ولا أنها مصنوعة.
ويختم هذا القسم من مقدماته بقوله «إن من أكثر الأمور إثارة للدهشة عدم وجود وصف شامل ومحايد للغة القرآن بمعزل عن قوانين اللغة الفصحى حتى الآن»(ص 15). وما أكثر ما ألف من الكتب والدراسات عن لغة القرآن وأساليبه، أما أن تكون الدراسة بمعزل عن اللغة الفصحى فليته يشرح لنا كيف يمكن ذلك، كيف ندرس لغة نص بمعزل عن قواعد لغته نفسها؟ أليست قواعد الفصحى منتز عة من بين ما انتزعت منه من قواعد لغة التنزيل؟
ويختم بقوله «تشترك اللغة الفصحى مع لغة القرآن في خصائص لغوية كثيرة جدا، لكنها لا تتطابق معها تطابقا تاما، التشابهات الكثيرة التي يمكن ملاحظتها بين لغة القرآن واللغة الفصحى سببها أن لغة القرآن كانت أبرز المصادر التي تم الاعتماد عليها في صناعة اللغة الفصحى في العراق، وليس لأن القرآن قد نزل بهذه اللغة بالفعل» (ص 15).
والسؤال الملحّ: لم أتعب العلماء أنفسهم في صنع هذه اللغة وأهم الحاجات مقضية بالفهم؛ فالقرآن مفهوم والشعر مفهوم، والفرق بين اللغة الفصحى وغيرها حسب ادعاء المؤلف أن الفصحى معربة، وأنا أسأله كيف تقرأ القرآن أو الشعر من غير إعراب، كيف تقرأ «وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسوله»[التوبة-3]، أو قول الشاعر:
أودى الخيار من المعاشر كلهم
واستبّ بعدك يا كليب المجلس
**__**__**__**__**
(1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، 2/ 122.
(2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي، 16/ 301.
(3) الصواب خصّيصى، وهو مصدر ممنوع من الصرف لألف التأنيث.
(4) ينظر: موطأ مالك - رواية أبي مصعب الزهري، 1/ 92.
(5) مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي، 2/ 582.