نجلاء العتيبي
حين وضعتُ يدي على طردي البريدي، في لحظة اتَّسمت بالبساطة والدهشة معًا، اجتاحني شعور غامر بالامتنان، لم تكن المسألة مجرد استلام طردٍ جاء في وقته المحدَّد، بل كانت استعادة لذاكرة بعيدة حملت معها صورة فلجأ الفهيدية وهي تنتظرُ قافلة المسافرين علَّهم يحملون لابنها في الكويت هدية صغيرة من تمرٍ تعبقُ فيه رائحة الحنين. كم تغيَّر الزمن، وكم تبدَّلت المسافات، حتى بات ما كان يُعدّ رحلة من الشجاعة والمخاطرة يتمُّ اليوم بكبسة زرٍّ، وبضغطة تتبع تطمئن القلب في دقائق.
كانت فلجأ في ذلك الزمن الصعب تُرسل محبَّتها على ظهر الرمال، بينما كانت الطُّرُق وعرة، والاتصال شحيحًا، لا بريد، ولا وسيلة مضمونة، جلست إلى جانب «تنكة التمر» تبكي ضياع فرصتها، وتندب تأخُّر اللقاء الرمزي الذي أرادته بين قلب أُمٍّ وابنها البعيد.
وحين مرَّ سعود الصعيدي الشهم بسيارته، تحرَّكت فيه النخوة التي نُسجت حولها حكايات أهل النفود، فانطلق في طريق طويل لا يطلب منه أجرًا ولا شكورًا، فقط ليُوصل نداء أُمٍّ مكلومةٍ إلى فلذة كبدها البعيد. تلك الرحلة التي تجاوزت ألفًا وخمسمائة كيلومتر، لم تكن مجرد انتقال في المكان، بل كانت عبورًا من إنسان إلى إنسان، من الوفاء إلى التضحية، ومن المعاناة إلى معنى الشهامة.
تأمَّلت قصتها وأنا أتسلَّم طردي الصغير الذي وصلني في وقت قياسي، فشعرتُ أنني لا أتسلَّم غرضًا ماديًّا بقدر ما أتسلَّم شهادة على تحوُّل عظيم صنعته هذه الأرض.
بين دموع الأم في صحراء جبة وبين تنبيهي الإلكتروني بوصول الشحنة، يمتدُّ جسرٌ من السنين عليه سارت المملكة في طريق من رمالٍ كانت تبتلع الخُطى، إلى طرق تبتسم فيها السرعة والدقة والانسياب.
ما بين الأمس واليوم، ثمَّة وطن أعاد تعريف المسافة، وجعل من الخدمة رسالة، ومن التقنية وعدًا بالثقة. تلك اللحظة جعلتني أستشعر معنى التطور الحقيقي، لا في الأجهزة أو الوسائل فحسبُ، بل في الفكر والرؤية والغاية.
حين نتسلَّم طردًا بسهولة، فإننا نتسلم نتاج مسيرة من العزم والبناء، خلف كل نظام إلكتروني، وكل شاحنة تسير في الليل لتصل قبل الصباح، يقف جهد أجيال من أبناء الوطن الذين جعلوا من الصحراء شبكة حياة متصلة لا انقطاع فيها، ما كان في الأمس حُلمًا بعيد المنال، صار اليوم واقعًا يربط القلوب، ويجمع المسافات بين مدنٍ تمتدُّ كأنها متجاورة لا تفصلها إلا أسماؤها.
ولعل أعظم ما في هذا التحوُّل أنه لا يقتصر على السرعة، بل على المعنى الذي يحمله: إنسان يخدم أخاه، مؤسسة تنقل بثقة، دولة تبني وتبتكر لتجعل حياة الإنسان أسهل وأجمل، في كل طرد يصلُ، ثمَّة رسالة غير مكتوبة تقول: إن المملكة لم تتوقَّف عن السير إلى الأمام، وإن ما كان حلمًا صار واقعًا يُعاش كل يومٍ.
أحمد الله كثيرًا على ما أراه من نعمة التيسير والدقة والأمان، وأحمده لأننا نعيش زمنًا تجاوز المشقة دون أن يفقد روح العطاء، لقد تطوَّرت وسائل النقل والخدمات البريدية حتى غدت انعكاسًا لرؤية شاملة لا تفصل بين التقنية والإنسان، بين السرعة والمعنى، فكل نقلة ناجحة هي شاهدٌ على وفاء عميق بين الماضي والحاضر، حيث لا تُنسى حكايات البدايات، وتُستحضر لتُقاس بها قيمة الحاضر وامتداد الجهد.
إنها لحظة شكر واعتزاز وامتنان، تدفعنا لأن نرفع البصر إلى الأمام، ونحمد الله على وطنٍ يسابق الزمن لا ليكسب السرعة فقط، بل ليحفظ في جوهره نبض الإنسانية الذي بدأ من بساطة البدايات، وواصلته المملكة في كل طرد يصل إلى بابه في الوقت الموعود.
ضوء
«الابتكار الوطني يختصر المسافات، يُسهّل حياة المواطنين، ويجعل الإنجازات الوطنية تتجلَّى حاضرة وملموسة في كل لحظة».