أ.د.عثمان بن صالح العامر
القضاء لدينا سلطة مستقلة، وللقاضي عبر التاريخ الإسلامي - والذي يعد العهد السعودي في أطواره الثلاثة امتداداً له - هيبته وقدره، وإجلاله واحترامه، وثقله المجتمعي، بل ربما يزيد وضعه في الدولة السعودية الثالثة عن حاله في بعض العهود الإسلامية السابقة، وغالباً ما كان القضاء يعتمد على فقه القاضي وعلمه الشرعي وشخصيتة القوية وذكائه ودهائه وفطنته وحنكته وحكمته المنبثقة عن روح الإسلام وسماحته، في ذات الوقت كان المجتمع السعودي بسيطاً صادقاً راضياً بما يحكم فيه القاضي (له أو عليه)، وكانت الكلمة بين الرجال عهدا وميثاقا غليظا ليس من السهولة أن ينفيها الواحد منهم أو يدعي غيرها.
ويعرف القاضي في ذلك الزمن بسمته الخاص، وهيئته المهيبة، وغالباً ما يميل للعزلة وعدم مخالطة الناس خشية أن تؤثر الخلطة هذه على فرضية موضوعيته وعدم انحيازه لأحد المتخاصمين متى ما حدث أن جلسا أمامه ليقضي بينهما، فيدخل في الوعيد الخطير للقاضي الذي يحابي ويحيد على جادة الحق لأي سبب من الأسباب، وكانت الحياة حينها بسيطة جداً، ولم يكن ثمة محاكم متخصصة، ولا مواعيد للجلسات، ولا أجهزة حاسوبية، ولم يكن هناك محامون ومحاميات يبحثون عن فتحة الأبرة ليلجوا منها طمعا في كسب القضية، ولم يولد بعد الذكاء الاصطناعي وليس هناك مواقع للتواصل الاجتماعي التي صار البعض منها اليوم ساحةً لمن يريد أن يلبس الحق بالباطل، وموطناً للتحايل والخداع وسرقة عقول الناس وأموالهم، ومرتعاً لاختراق الخصوصيات وكشف الستر، ومقراً لمن أراد أن يدلس ويكذب ويزور، علاوة على شهود الزور الشخوص الذين نُزع خوف الله من قلوبهم ونسوا أو أنهم تناسوا محكمة الآخرة التي هي أشد وأنكى نسأل الله العافية، كل هذه المعطيات الجديدة، والتحولات الجذرية، والتغيرات الشمولية، تفرض في نظري على قاضي اليوم أن يخرج عن عزلته، ويخالط الناس، ويتبين طبائع البشر التي جدت، ويسبر المجتمعات التي تغيرت، ويتعرف على الأعراف والعادات، ويخبر القوانين والتشريعات، يكون على اطلاع على العالم الافتراضي الذي صار وسيلة الاتصال والتواصل البشري اليوم، وهذه هي (الثقافة) التي أعتقد أن على قضاة اليوم الإلمام بها والتعرف عليها، حتى يتسنى لهم الجمع بين ما يمتلكون من زاد معرفي واسع، وفقه شرعي شامل، وعقيدة وسطية صحيحة، من جانب، ومن جانب ثان ما يلمون به من ثقافة رقمية وأخرى واقعية لما جد في عالمنا اليوم الذي لم نعد فيه بمعزل عن العالم الخارجي الذي جعل القوانين الدولية ملفاً مفتوحاً أمام القضاء السعودي خاصة التجاري منه وكذا الفكري جراء التقارب العالمي في عصر العولمة الصعب، وهذا لا يتأتي ولن يتحقق في ظل عزلة القاضي الاجتماعية والاتغلاق على الذات فنحن في عالم متسارع تتغير فيه ملامحه الرئيسة كل يوم، ومعرفة ذلك يحتاج إلى معايشة لحظية ومعرفة مجتمعية، والله أعلا وأعلم، وإلى لقاء، والسلام.