د. جاسر الحربش
مصطلح الأرواح المنسية في العنوان اقتباس من نقاش علمي في صحيفة طليعية ألمانية عن المرضى المتنقلين لسنوات بين العيادات النفسية، لينتهي بعضها كحالات ميؤوس منها في إحدى المصحات النفسية أو عنابر الأمراض العقلية.
المثال النموذج جاء على لسان طبيبة نفسية كانت تعمل بنجاح في عيادتها الخاصة، ثم بدأت تشكو تدريجياً في سن الرابعة والثلاثين من تضاؤل قدراتها التركيزية والجسدية والمزاجية ولم تعد قادرة على ممارسة المهنة في عيادتها؛ فترتب على ذلك انهيارها المادي وخلخلة الاستقرار العائلي في البيت. جربت على نفسها مختلف العلاجات النفسية ثم استشارت عدة زملاء كمريضة، فكان التشخيص المتفق عليه هو إصابتها بحالة شديدة من الاكتئاب السوداوي، لكن المحاولات العلاجية كلها فشلت. لأنها كانت بين النوبات الاكتئابية تستعيد بعض التركيز والعزيمة، نقَّبت في المتوافر من الأبحاث المستجدة عن الحالات الميؤوس منها في العيادات النفسية التي كثيراً ما تنتهي في عنبر للأمراض العقلية ويطويها النسيان فتسمى حينئذ بالمصطلح بين زملاء المهنة الأرواح المنسية.
عثرت الطبيبة المصابة بالاكتئاب على مركز وحيد من نوعه في جنوب ألمانيا يركز مؤسسه وعلى نفقته الخاصة على منحى جديد في الأبحاث النفسية والعقلية، وبالتحديد على العلاقة بين أمراض المناعة الجسدية العضوية وتأثيراتها المحتملة على أدمغة المصابين بأحد الارتباكات المناعية.
للتوضيح المبسط الجهاز المناعي العضوي في الكائن الحي يشبه وزارة الدفاع والأمن والاستخبارات المعلوماتية التي تعمل في تكامل تنسيقي لحماية الكائن من الاختراقات بغزاة ممرضة من خارجه. بهذا المفهوم قد يكون ارتباك الجهاز المناعي الدفاعي لصالح المريض هو السبب أحياناً في إصابة صاحبه بمرض عابر أو مزمن يحتاج لعلاجه تهدئة الجهاز المناعي نفسه ومحاولة استعادة عافيته وتكامل العمل بين أجزائه.
كان الفكر السائد في الطب النفسي العلاجي أن الأسباب الرئيسية للاعتلالات النفسية هي الخلل الجيني الوراثي أو المكتسب والصدمات الاجتماعية الشديدة أو أمراض الدماغ المباشرة ذاته مزيجاً من هذه الأسباب. المستجد في الأبحاث العلمية التي بدأ ذلك المركز المتخصص في جنوب ألمانيا يبحث فيه بالتعاون مع أحد المراكز البحثية القليلة في الولايات المتحدة الأمريكية هو: العلاقة بين أمراض الجهاز المناعي العضوية بأنواعها وتأثيراتها المحتملة على الدماغ ومن ثم على المزاج والانفعالات والقدرات الذهنية والوظيفية.
في ذلك المركز الوحيد في ألمانيا وبالتنسيق مع زملاء قلائل في أمريكا كانت تجرى فحوصات مخبرية لدم المرضى؛ للتعرف على الجسيمات المضادة البروتينية التي ينتجها جسد المصاب لمكافحة جسيمات دخيلة كالفايروسات والملوثات الغذائية والهوائية وغير ذلك، وهي كثيرة مثلما أنها في تزايد عددي مستمر في كل العالم.
من أمراض المناعة وارتباكاتها التي تشهد عالمياً تصاعداً مقلقاً اعتلالات القولون المناعية والذئبة الحمراء والروماتيزم الرثوي وكثير من اعتلالات الكبد والكلى والغدد الهرمونية والإصابات الجلدية. في ذلك المركز الوحيد في تخصصه وفي الحالات التي يثبت فيها وجود ارتفاع للجسيمات المضادة البروتينية كان المصاب يعالج بعقارين (لا داعي لذكرهما تفادياً لسوء الاستعمال الشعبوي)، أحدهما لتحييد الجسيمات المضادة والقضاء عليها، والثاني لكبح تصنيع الجهاز المناعي عن إنتاج المزيد منها.
تقول الطبيبة النفسية التي ذكرت قصتها كنموذج في بداية المقال ما يلي: خلال أيام من بداية علاجي تحسنت بوضوح وبعد عدة أسابيع استعدت قدراتي الذهنية والجسدية والعمل في العيادة النفسية كطبيبة استشارية نفسية. الخلاصة: اتضح أن تلك الطبيبة التي أصيبت بالاكتئاب عانت في سنوات مضت من التهاب مناعي في الغدة الدرقية عولج في حينه واختفت الأعراض لكن بقيت الذاكرة المناعية تنتج الجسيمات المضادة البروتينية. توجد في كل دول العالم أعداد كبيرة من الأرواح البائسة المنسية في العيادات والمصحات النفسية يتم تصنيفها كحالات ميؤوس منها. كثيراً ما تقضي وتنتهي هذه الحالات في أحد العنابر للأمراض العقلية. مع الأبحاث الجديدة عن علاقة الجهاز المناعي العضوي وأمراضه وتأثيراتها المحتملة في الدماغ البشري بما يتطابق مع أعراض الاكتئاب والفصام والوساوس القهرية والقلق والعدوانية يفتح العلم الآن أبواب أمل جديدة لعلاج وشفاء حالات كانت تعتبر ميؤوساً منها بإرجاعها كلاسيكياً للوراثة والطفرات الجينية المكتسبة أو التعرض لصدمات اجتماعية من أي نوع، بينما قد تكون أعراضاً مرضيةً لتأثر الدماغ بأجسام مناعية مضادة يصنعها الجسد لتحفيز المناعة ضد الاختراقات الخارجية لكنها تمردت على الهدف الأساسي لحمايته وأدت إلى ارتباك القدرات الذهنية والعملية.