م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
التغير لم ينجح سياسياً في أوروبا إلا بعد أن نجح فكرياً، فالتغيير هو نتيجة أحدثت قطيعة تاريخية مع الماضي وغيرت مسار التاريخ.. التغيير خلق تحولاً عظيماً، فأوروبا بعده لم تعد كأوروبا قبله.. فقد أحدث زلزالاً هز أركان كل شيء قائم، فغيَّر شكله وأعاد هيكلته وبَدَّل مستهدفاته وعَدَّل توجهاته، فتحولت الحياة نتيجة ذلك وانقلبت رأساً على عقب.
ذاك هو ما حصل في أوروبا، ونتائجه هي ما تعيشه اليوم الحضارة الغربية.. لكن ماذا عنا نحن في العالم العربي، هل تعرض تراثنا للنقد والتحليل والفحص، أم حميناه ودافعنا عنه وأسكتنا كل من تجرأ على مَسِّه؟ الحقيقة أننا فعلنا كل ذلك.. لذلك لم يدخل العالم العربي العصور الحديثة فكرياً حتى اليوم، وإن كان يستفيد من منتجاتها التي يستوردها ويستخدمها.. ولا زالت دولنا العربية دولاً ريعية وليست دول إنتاج، تعتمد إما على مصادر دخل نافدة كالبترول، وإما على الإعانات الدولية والصناعات البدائية المدعومة.
المجتمعات العربية اليوم لا تزال تعيش عصورها الوسطى، وما حركات الحداثة التي تحاول الإطلال برأسها هنا وهناك سوى حركات بدائية خائفة غير واضحة المعالم، تعيش التُقْيَة والتستر والاختباء.. والسبب هو أن الثقافة العربية لم تتعرض للنقد التاريخي العميق الذي تعرضت له الثقافات الأوروبية، لذلك سوف يستمر الحال على ما هو عليه حتى نسمح بنقد ثقافتنا بالشكل الذي لا يُعَرِّض الناقد إلى التلف.
كل شيء في العالم صار تحت الضوء، صوتاً وصورة وفكراً ومنطقاً ومستهدفات وغايات.. العالم اليوم يعيش تحت الأضواء بشكل كاشف باهر الإضاءة لا يمكن إخفاء أي شيء تحته، ليس لديه مقدس، وليس فيه غطاء، ولا يمنح أحداً حق الحماية.. فكل شيء يقف وحده عارياً واضح المعالم والتفاصيل بكل زواياه ومنحنياته وتعاريج شكله من رأسه حتى أخمص قدميه.. وأي شيء يتم حمايته أو تغطيته أو تحريم الاقتراب منه فهو بذلك يدعو الجميع للالتفات إليه، ويحرض المهتمين للتركيز عليه وفحصه.. عالم اليوم هو عالم النقد والنقض والتحليل والتبرير والاستهداف والتشكيك، ولا شيء يمكنه التملص من كل ذلك.
الحكومات العسكرية في الدول العربية لن تتدخل لحماية المفكرين ولن تشجع التفكير.. فقد قامت واستمرت خلال السبعين سنة الماضية على الركود والثبات، وحرصت على تحويل الهوية والثقافة التي صنعتها المجتمعات ذاتها إلى أشياء مقدسة لا يجوز المساس بها، لأن نقد الثقافة سوف يجر إلى نقد السياسة، وهذا ما لا تريده تلك الحكومات العسكرية.
الحكومات العسكرية في البلدان العربية لعبت دور المنسق أو الوسيط الذي يفرض التوازن بين القوى المجتمعية سواء دينية أو مذهبية أو قبلية أو مناطقية.. وتقدم نفسها على أنها تبحث عن السِّلم المجتمعي، وجعلت الصراع يظهر على أنه بين التنويريين ورجال الدين، وأخافت الطرفين من انتصار أحدهما على الآخر، ونَصَّبت نفسها حكماً بين متخاصمين، وصارت الملجأ لكل طرف، وكل طرف يؤلب على الطرف الآخر ويحرض عليه!
التنوير الأوروبي حظي بفلاسفة عظام، تركوا إرثاً فلسفياً عظيماً خلال سنوات التنوير الثلاثمائة التي مهدت للحداثة، فمن هم المقابلون لهؤلاء من العرب والمسلمين، من هو المقابل (لفولتير، ونيتشه، وروسو، وديكات، وكانت، وهيجل، وسبينوزا) وعشرات غيرهم؟ نعم يوجد لدينا بعض المفكرين لكنهم قلة أولاً، ومنحازون في فكرهم لبيئاتهم ثانياً، وهم في واقع الأمر تلامذة لمفكري أوروبا ولا أقول امتداداً لهم.. وأنا هنا لا ألوم ولا أجلد ذاتنا العربية لكني أحكي واقعاً قائماً، وأرى أن الحل لذلك هو مستبد مستنير.