عبدالوهاب الفايز
هذا هو الحدث الوطني الذي أسعدنا، وهو أحد المنتجات التي تبني وتحفظ مقومات الجبهة الداخلية، وفيه نجد منهج وموروث الأمير نايف بن عبد العزيز، رحمه الله، والحدث هو:
احتفال جامعة القصيم، وإدارة سجن المباحث العامة التابعة لرئاسة أمن الدولة بمدينة بريدة، مساء الأربعاء قبل الماضي، بتخريج الدفعة الأولى لطلاب الدبلوم، والدبلوم العالي من نزلاء السجن. شملت الدفعة الأولى من نزلاء السجن 26 خريجًا من الدبلومات في ثلاث تخصصات وهي: البحث الاجتماعي، ودبلوم الموارد البشرية، ودبلوم المبيعات.
هذه المبادرة الوطنية هي الأولى في تجربة التعليم الحضوري داخل السجون، وهي أول مبادرة على المستوى الإقليمي تقدم هذا النمط من التعليم داخل السجون في مرحلة الدبلوم، وأول جامعة تقدم برامج الدراسات العليا لنزلاء السجون على مستوى العالم.
عندما شاهدت هذه المناسبة الوطنية تذكرت الأمير نايف بن عبد العزيز - رحمه الله-؛ ففي أحد اللقاءات الدورية مع القيادات الإعلامية قبل عشرين عاما، وفي عز الهجمات الإرهابية التي أربكت بلادنا وهزت مشاعرنا الوطنية الوجودية، تحدث رحمه الله بعمق وتوسع عن الإرهاب ومنطلقاته الفكرية، وتحدث عن رؤيته وتصوره للتعامل مع هذه المشكلة، وتحدث عن الحرص على ضرورة حفظ الأنفس، وذكر أن الأجهزة الأمنية كانت تخاطر بأروح وسلامة ضباطها وجنودها حتى تقبض على الشباب المتورطين بالإرهاب أحياء.
كان يرى هذا ضرورة وطنية، أو كما قال حتى (نعالجهم ثم نعيدهم إلى آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم ليفرحوا بهم). وكان رحمه الله مقتنعا أن الشباب والمراهقين ضحية مشاريع فكرية خارجية بعيدة عن روح بلادنا ومبادئها.
والحمد لله أن هذه القناعة كانت ومازالت ضمن أدبيات الحكم وموروث الدولة الذي وضعه الملك عبدالعزيز - رحمه الله-، وكل يوم نرى ثمارها.
وفي المشروع العلمي لأمن الدولة يتحقق الآن ما كان يتطلع إليه، رحمه الله. لقد شاركنا الخريجين وأهاليهم هذه الفرحة الوطنية. إنها احتفاء بصدق وثبات (النموذج الإنساني) الذي آمن به الأمير نايف، وكل قيادات بلادنا التي تعلمت الدروس الصعبة في مواجهة مشروع الإرهاب والتطرف. كان همه ورسالته الأساسية التي أخلص لها هي (حماية الجبهة الداخلية)، والدفاع عن الموطن السعودي ظالما أو مظلوما؛ ظالما لنفسه كما حدث مع المتورطين في الإرهاب، فهؤلاء من الواجب حمايتهم من جهلهم وعدم فهمهم للأمور الخطيرة التي تدار حولهم من مشاريع فكرية وسياسية خارجية هدامة.
هذا الحس الإنساني في بلادنا هو دافع النجاح الكبير في مواجهة الإرهاب وتحويل أساليب المعالجة والتصدي للفكر المتطرف إلى برنامج متكامل يعكس الرؤية السعودية لحقوق الإنسان وكل ما يؤدي إلى السلام والاستقرار الأمني والاجتماعي. والبرنامج يتحول إلى تأسيس بداية حقبة (الوعي الفكري)، وهذا يعد تحدياً جديداً ضرورياً في مسار العملية التعليمية، فالجيل المعاصر يحتاج إلى منهج فكري يحقق لهم الوصول إلى مستوى من الوعي يعصمهم من الانحرافات الفكرية والسلوكية التي تؤثر في أخلاقياتهم وتوجهاتهم الفكرية وتدخلهم في سلك الأفكار المتطرفة والمنحرفة والتي تؤدي بهم إلى الوقوع في العنف والغلو وحمل الأفكار الإرهابية.
ونحتاج هذا الوعي للأجيال المعاصرة بصورة خاصة لما يواجهونه من انفتاح إعلامي، وتعاط مع مواقع الكترونية، وتواصل اجتماعي، وهي مغذيات مؤثرة لحمل مختلف الأفكار والتوجهات السياسية والفكرية والأخلاقية، والتي تؤثر بدورها على الأبعاد الدينية والأخلاقية والأمنية، وتخلق مشكلات في المجتمعات المستقرة وتنشر الأفكار الشاذة والمنحرفة. والذين استناروا بالعلم والمعرفة وعرفوا مرارة الأفكار الهدامة سيكونون خير من يقود هذا الجهاد الأكبر، الجهاد ضد النفس، وضد نزغات الشيطان، وضد مثيري الفتن.
التجربة السعودية في محاربة التطرف الفكري والإرهاب تقدم لنا وللعالم (حالة دراسية) خاصة ومتجددة، فبرامجها تنمو وتتوسع في الأفكار والمبادرات الجريئة، ومنها هذا المشروع التعليمي الذي احتفلنا وفرحنا به في مسار الوعي الفكري.
من حسن الحظ أنه صادف الزيارة الهامة لسمو ولي العهد، يحفظه الله، إلى أمريكا حيث وجدت بعض وسائل الإعلام الليبرالية الفرصة لفتح النقاش حول حقوق الإنسان في السعودية. فقبل أيام قليلة فقط من الزيارة، أصدرت منظمات دولية بارزة مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية تقارير وبيانات تطالب إدارة ترامب بـ«مساءلة» السعودية.
التوقيت ليس صدفة. هذه المنظمات – ومعها بعض أعضاء الكونغرس والإعلام الليبرالي الأمريكي – وجدت الفرصة لاستثمار الزيارة الرفيعة المستوى كمنصة إعلامية لممارسة أقصى ضغط ممكن، آملة في انتزاع تنازلات سعودية سواء في المفاوضات الثنائية أو في ملفات إقليمية أوسع. إنها استراتيجية مألوفة: رفع سقف المطالب العلنية لتحسين موقف التفاوض خلف الأبواب المغلقة.
لكن الانتقائية الواضحة في تطبيق هذا المعيار تُضعف مصداقية المنظمات نفسها. ففي الوقت الذي تُصدر فيه تقاريرها عن السعودية، نجد صمتاً نسبياً أو تبريراً خفيفاً عندما يتعلق الأمر بانتهاكات ترتكبها دول تُعتبر حليفة استراتيجية لواشنطن وللعواصم الغربية، مثل إسرائيل.
تقارير الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية وصفت ما يحدث في غزة بـ»الإبادة الجماعية المحتملة»، مع توثيق منظم لاستخدام الدروع البشرية والتعذيب المنهجي والاعتقال الإداري لآلاف الفلسطينيين بدون تهمة أو محاكمة. ومع ذلك، لم نسمع دعوات مماثلة لمقاطعة زيارات المسؤولين الإسرائيليين أو تجميد صفقات الأسلحة الأمريكية الضخمة.
هذه الازدواجية تكشف أن «حقوق الإنسان» تحولت في كثير من الأحيان إلى أداة سياسية مرنة تخدم مصالح الدول والجهات المانحة أكثر مما تخدم مبادئ عالمية ثابتة. فالمنظمات غير الحكومية الكبرى تتلقى تمويلاً كبيراً من حكومات غربية ومؤسسات ليبرالية، وبالتالي تُدار أجندتها وفق أولويات هؤلاء الممولين.
بالنسبة لنا في السعودية هذه التقارير الإعلامية فقدت مصداقيتها، وقضايا حقوق الإنسان نتعامل معها حسب مبادئنا وأولوياتنا الدينية والاخلاقية ومصالحنا العليا. والوعي بالحقوق الإنسانية هي جعلت المملكة ترفض تسليم بعض المتورطين بالإرهاب من الصغار في الاعمار والاحلام من غير السعوديين إلى دولهم خوفا عليهم وشفقة بهم. هذا هو الحس الإنساني الراقي الذي يضحي لأجل مبادئ حقوق الانسان.
نحن في دولة صنعت وحدة وطنية بعد سنوات من التضحيات الكبيرة، وفي قرارة أنفسنا ووعينا الاجتماعي والسياسي ندرك اهمية التمسك بهذه الوحدة وصيانتها والمحافظة عليها. وحفظ النفس والحقوق والكرامة الإنسانية هي من اهم المرتكزات التي وضعها الملك عبدالعزيز في مسيرة التوحيد، وكانت الدافع الرئيس الذي جمع الناس حوله وكانوا شركاء الوحدة وصانعوا نجاحها. وبرنامج امن الدولة العلمي الذي احتفلنا بمنجزاته الاولى هو مشروع يتعدى أثره إلى خدمة مشروع هذه الوحدة العظيمة، وتطوير التجربة السعودية للتعامل مع حقوق الإنسان.
سجن الطرفية في القصيم لم يكن هذا المشروع أول مبادراته النوعية. مازلت أتذكر (في حنان سجن الطرفية) تلك القصة الصحفية المطولة التي كتبها الزميل منصور النقيدان قبل ثلاثة أعوام عن زيارته إلى السجن. وفيها قدم صورة عن الوضع الجديد الذي رآه، وقدمه لنا في قصته الصحفية كما عاشها وقرأ تفاصيلها بصدق ورأى فيها (نوعية التحول) والنقيدان شاهد مرحلتين، فقد تورط بمشروع التطرف الديني، ولكن بعد توقيفه في سجن الطرفية وعزله عن المشروع، أنقذه الله وعاد إلى وعيه.. وهو الآن يعيش حياته بين أهله واحبائه.
المناسبة في القصيم للاحتفاء بالمتخرجين، والذي نقلتها قناة الاخبارية كاملاً، قدمت مشروعا وطنياً يأخذنا إلى حقبة جديدة لتكريس مقومات الوحدة الوطنية، والتعليم هو أهم مقومات الأسس لهذه الوحدة.
وكيل جامعة القصيم للشؤون التعليمية الدكتور فهد بن سليمان الأحمد قال: «فخورون جميعًا بهذا التكامل الذي حدث بين رئاسة أمن الدولة وجامعة القصيم في تقديم هذه البرامج النوعية، والأول عالميًا في هذه التجربة الفريدة، وهي إجراء النزلاء دراسات عليا داخل سجن المباحث العامة في بريدة. وهذا الإنجاز تم من خلال تخريج 45 طالبًا في الماجستير التنفيذي في علم الاجتماع وعلم الإدارة وفي الأنظمة. وكل هذه البرامج عكست دور جامعة القصيم المجتمعي ورسالتها نحو الوطن وتنمية العقول أينما كانت».
كما نقلت انطباعات النزلاء ومنها:
أنس يوسف: أحد النزلاء قال: «حصلت على ماجستير إدارة أعمال، وفرحتي لا توصف لأن الدراسة كانت صعبة، لكن كادرًا تعليميًا متميزًا ساعدنا، والدتي العزيزة وأسرتي كلها حضرت الحفل».
عبدالله الصقر: إدارة السجون وفرت لنا كافة الوسائل والبيئة المناسبة للدراسة، وواصل: «الذي وصلنا إليه شيء عظيم، وأطمح للحصول على الدكتوراه».
سليمان الصقر أحد النزلاء: «أولا، أتقدم بالشكر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان على اهتمامهم بجميع أطياف المجتمع، ومن ضمنهم الموقوفون، وهذا يسعدنا ويرفع رؤوسنا».
فيصل العتيق أحد النزلاء: «نحن في سعادة لا توصف، والبيئة التعليمية كانت جيدة للدراسة». محمد العتيق شقيق النزيل فيصل: «مشاعرنا لا توصف، ونشكر الله سبحانه وتعالى».
عبد المحسن البيضاني، أحد النزلاء، يفتخر بحصوله على الماجستير، وبالاحتفال بهذه المناسبة مع أسرته، وخاصة طفلته.
أخيرا نقول: يحق لهم هذا الفرح، ويحقّ لنا الاعتزاز بتطور تجربتنا الوطنية لمحاربة الإرهاب والتطرف الفكري. بلادنا نجحت في محاربة الإرهاب لأن المجتمع السعودي هو الذي تصدى له عندما أدرك خطره على أمنه ووجوده، وهذا كان أكبر داعم ومساند لدور الأجهزة الأمنية التي قدمت عشرات الشهداء والمصابين في حربنا على الإرهاب.
يقول منصور النقيدان: «لطالما قالت لي أمي: إنني أدعو الله لك، في كل صلاة، وكلما جزع النوم من عيني في السحَر، وفي ساعات الاستجابة؛ أن يحفظك الرحمن بعينه».