هدى بنت فهد المعجل
«العقل -دون قصد- يلمّع اللحظات القديمة، فيبدو الماضي «أجمل»، لا لأنه كذلك، بل لأن القلب أحبّه.»
بشيءٍ من التأمّل، ندرك أن الحنين ليس مجرد عاطفة عابرة، بل هو حركة خفية في أعماق النفس، تستعيد بها الروح ما تعتقد أنها فقدته. فالماضي -في حقيقته- ليس كما نراه الآن؛ إنه نسخة معدّلة بعناية من ذاكرتنا، يختار العقل منها ما يبعث الدفء، ويطمس ما كان يؤلم، وكأنه يملك غريزة قديمة لحماية القلب من ثقل الحقيقة. إننا حين نشتاق لسنواتٍ مضت، نشتاق غالبًا لصورةٍ نحن من صاغ جمالها. نشتاق للأيام التي بدت في وقتها عادية، لكنها في الذاكرة اكتسبت لمعانًا لم يكن موجودًا أثناء حدوثها. وهل هناك ما هو أكثر شاعرية من فكرة أن بعض اللحظات تصبح أجمل عندما تمرّ؟ كأن الزمن يقطّر التجربة، يزيل شوائبها، ويترك لنا خلاصتها الرقيقة فقط.
في أعماق النفس، يعمل الحنين كجسرٍ بين ما كنّا عليه وما صرنا إليه. ليس هروبًا من الحاضر كما يُظن، بل محاولة لفهمه. فالعقل حين يتجه إلى الوراء لا يبحث عن أيامٍ بقدر ما يبحث عن إحساس: إحساس بخفة الروح، أو ببداية حلم، أو بقرب أشخاص كانوا يشكِّلون معنى لا نعثر عليه بسهولة اليوم. إن الشوق ليس للزمن، بل لما حمله الزمن من قيم لا نملك أن نستعيدها بالسهولة نفسها.
ولأن الإنسان بطبيعته يخاف الفقد، فإنه يتمسَّك بالذكريات كأنها مرساة تمنعه من الانجراف وسط ازدحام العالم. من هنا يأتي التأثير النفسي العميق للماضي: إنّه يمنح شعورًا بالثبات، ولو كان ثباتًا مبنيًا على صور غير مكتملة. والمفارقة أن هذا اللمعان الذي يضيفه العقل لا يخدعنا بقدر ما يعلِّمنا. يعلِّمنا أننا نكبر، وأن ما نشتاق إليه لم يكن يومًا في الأشياء، بل في حالتنا الداخلية يوم عشنا تلك الأشياء.
ولعلَّ أجمل ما في الحنين أنه يكشف لنا أن اللحظات التي نعتبرها الآن عابرة قد تكون غدًا كنوزًا ثمينة. لذلك، لا يدعونا الماضي للعودة إليه، بل يدعونا لنعيش الحاضر بوعي أكبر، حتى لا نكتشف بعد سنوات أننا مررنا قرب السعادة دون أن نشعر بها.
وهكذا، يصبح الماضي مرآة نرى فيها ليس ما كان، بل ما يفتّش عنه القلب في مسيرته..
وتصبح الذكريات ضوءًا خافتًا يدلَّنا على أن الجمال لا يُدرك في حينه، بل يُكتشف حين يبتعد.