د. سامي بن عبدالله الدبيخي
واجهت المدن في العقود الأولى للنهضة العمرانية السعودية، تحديات التنمية السريعة واستيعاب التدفق السكاني الهائل، والحاجة الملحة لإسكان الملايين وتوفير الخدمات الأساسية بأسرع وقت ممكن. فكان الرهان على سرعة تلبية المستعجل من الطلبات لا على جمال العمران وكمال المخططات. فتركز الجهد كله على شق الطرق، وبناء الأحياء، ومد البنى التحتية. أما التفاصيل العمرانية كجودة الفراغ العام ودقة التصاميم والتفاصيل العمرانية وجماليات المشهد الحضري، فقد تم تأجيلها إلى «وقت لاحق».
هذا المنطق، وإن كان مفهومًا في سياقه الزمني، إلا أن آثاره كانت عميقة وحاسمة على المدينة السعودية. فأصبحت الساحات والشوارع مغطاة بالإسفلت «لأنه أسرع وأرخص وأسهل»، وهيمنت السيارة تمامًا على الفراغ العمراني، وانسحب المشاة من المشهد، وتحولت المدينة إلى ممرات للعجلات بدلاً من فضاءات حضرية للمشاة. والنتيجة: فقدان للبعد الإنساني واختفاء للتواصل التلقائي بين السكان وتلاشي لفرص اللقاءات العفوية ونسج العلاقات الاجتماعية التي تؤسس لبناء المجتمع وتمتين روابطه.
وبعد عقود من إدارة المدينة بمنطق التنمية «المستعجلة»، أدرك سمو الأمير الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عياف -حفظه الله- ضرورة تعديل هذا المسار وفق منطق «أنسنة المدينة» باستلهام وتوجيه من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- رائد أنسنة المدن وأكبر داعم لها ومهتم بها. وما نجاح سموه في هذا المسعى كأمين لمنطقة الرياض على مدى خمسة عشر عاماً إلا لعمله تحت مظلة مخططها الأول وقائد نهضتها الملك سلمان -حفظه الله- أمير منطقة الرياض آنذاك- ودعمه اللامحدود للجهود التخطيطية والتنموية بها.
فقد وجد سموه أن فاتورة التأجيل أضحت مكلفة على جودة الحياة في المدينة وحان وقت دفعها من خلال تعزيز البعد الإنساني واستعادة الفراغات العامة فيها من هيمنة المركبات لخدمة الإنسان. فكان لا بد من تخليص ساحات المدينة وشوارعها من هدير العجلات لتعج بدبيب حركة المشاة وأماكن الجلوس والتفاعل الاجتماعي والاستمتاع بجماليات الفراغ العمراني والاستئناس بالمشهد الحضري المُحسَّن.
وقد فصَّل سموه إسهاماته بهذا الشأن في كتابه الموسوم «تعزيز البعد الإنساني في العمل البلدي: الرياض أنموذجاً» المنشور عام 1437هـ والمتاح على موقعه الإلكتروني والذي يستعرض فيه مبادرات تنموية ثقافية وتراثية واجتماعية وبيئية ورياضية لتحسين جودة الحياة في المدينة وتطوير ممرات المشاة والساحات البلدية في أحيائها.
لتعميم هذه الممارسة عمليًا وتعزيز هذا المسعى أكاديميًا، يدفعه لذلك خبرته العلمية وسعة الاطلاع على التجارب العالمية والطموح والإحساس بالمسؤولية، بادر سموه مؤخراً بتأسيس «جائزة الأمير عبدالعزيز بن عياف لأنسنة المدن» بهدف تشجيع المهتمين من ممارسين وأكاديميين وطلاب للبحث في مجال أنسنة المدن والتي ستشهد الشهر القادم موعد حفلها الختامي لتوزيع جوائز دورتها الثالثة. وقد أصبحت اليوم مبادرة أنسنة المدن إحدى المبادرات الرئيسية للارتقاء بجودة الحياة في المدينة السعودية بحيث تعود فيها الساحات قلبًا نابضًا بالحياة الاجتماعية ومفعمًا بالحيوية والنشاط، وتعود فيها الأرصفة تعج بحركة المشاة في فراغات مظللة وجذابة، وتعود فيها الكتل المعمارية متناغمة مع الطبيعة والهوية المحلية، وملتزمة بمبادئ الأنسنة والاستدامة.
ختامًا، إن أنسنة المدن ليست رفاهية، بل ضرورة حضارية. وجهود الأمير الدكتور عبدالعزيز بن عياف الرائدة هي المحفزة لبقية المدن لتتوسع في ممارسة أنسنة المدن التي بدأت تعمم على كامل مناطق المملكة ومدنها في تناغم تام مع رؤية المملكة 2030 بقيادة سمو ولي العهد -حفظه الله- التي أضافت لمفهوم الأنسنة بعدًا أعمق وانتشارًا أوسع ليشمل رفع معايير جودة الحياة وتحسين كفاءة أداء المدينة لوظائفها.
وقد برزت تجليات هذه الممارسة في جميع مدن المملكة عبر كثير من المشروعات القائمة في المملكة وفي الرياض على وجه الخصوص. فالمدينة التي لا تعزز البعد الإنساني ولا تخدم السكان أولاً وقبل كل شيء، لا تعدو أن تكون مجرد تجمع خرساني بلا حيوية ولا حياة. وإن التركيز على تحويل المدن إلى أماكن أكثر أنسنة وقابلية للعيش، وأكثر جمالاً وتحضرًا ومرونة وذكاءً أصبح التوجه السائد للمدن الأكثر استدامة وتنافسية.