د. إبراهيم بن جلال فضلون
«رؤيتنا 2030 ليست أمنية فقط، بل استثمار في البشر، في المستقبل، في الشراكات التي تجعل من السعودية لاعبًا اقتصادياً فاعلاً على مستوى العالم».
كلمات رنانة لوليُّ العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- تلخص بدقة الرؤية الاستراتيجية التي تقودها المملكة بريادة تُمثل الدعامة الأساسية لزيارةٍ تاريخية إلى الولايات المتحدة لا تقتصر على المنحى الدبلوماسي، بل تعكس فرصًا اقتصاديًة حقيقيًة لا وهمية، كونها علاقات متجذرة تمتد لأكثر من تسعة عقود، منذ أوائل الثلاثينيات، عندما شيدت المملكة الحديثة جسورًا مع الولايات المتحدة عبر الذهب الأسود (النفط والطاقة)، ثم تطورت لتشمل أبعادًا وزخماً اقتصاديا وتنويع مصادر النمو للتركيز على المستقبل عبر التقنية والاستثمارات الكبرى التي تنافس على مستقبل للقطاعات العظمى لمملكة أعظم.
خرجت من عباءة السنوات الماضية، بعد أن كان هناك اعتماد متبادل: الولايات المتحدة على النفط السعودي، والمملكة على التكنولوجيا والاستثمارات الأميركية، مما جعل شراكتهما استراتيجية لا تذبل بتغير الزمن.
وتواصل العلاقات الاقتصادية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة نموها المستمر، إذ بلغ حجم التجارة بين البلدين نحو 500 مليار دولار خلال الفترة من 2013 إلى 2024، وفي عام 2024 وحده بلغ حجم التبادل التجاري 32 مليار دولار، منها صادرات سعودية بلغت 13 مليار دولار، وواردات بقيمة 19 مليار دولار، واليوم، لا تكتفي المملكة لأن يكون دورها التقليدي كمورد للطاقة، بل تبرز كقوة اقتصادية إقليمية وعالمية من خلال تنويع اقتصادها عبر رؤية 2030، مستثمِرة في الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة والصناعات المستقبلية، حيثُ يعمل البلدان على فرص شراكة بقيمة 600 مليار دولار، من بينها اتفاقيات بقيمة تزيد على 300 مليار دولار تم الإعلان عنها خلال منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي الذي عُقد في شهر مايو (2025م) في الرياض، مما يعكس الشراكة المتنامية والتعاون المستمر بين البلدين في مختلف المجالات، فهذه القوة الاستثمارية تجلت بقوة خلال المنتدى السعودي - الأميركي كأحد أكبر الفعاليات الاقتصادية في تاريخ البلدين والذي تزامن مع الزيارة، حيث أعلن الأمير التزام المملكة بضخ استثمارات ضخمة في الولايات المتحدة، ليكون التواجد السعودي هناك أكثر من مجرد استثمارات غربية في المملكة، بل شراكة حقيقية للطرفين بالمدن الاقتصادية، والمناطق اللوجستية، والتقنية المتقدمة، والطاقة المتجددة، بتوقيع شمل الاتفاق أكبر صفقة دفاعية في التاريخ تقريبًا، بقيمة نحو 142 مليار دولار من معدات أمريكية، وأُبرمت شراكات تقنية واسعة تشمل الذكاء الاصطناعي والبنية الرقمية، بالإضافة إلى تعاون في الفضاء والمعادن.
ومن جهة أخرى، أعلن صندوق الاستثمار السعودي (PIF) عن استثمارات جديدة مع مديري أصول أميركيين كبار بقيمة تصل إلى 12 مليار دولار، مما يدل على الجاذبية المتزايدة للسوق الأمريكية أمام رأس المال السعودي. حيثُ تعمل في المملكة نحو 1300 شركة أمريكية، منها 200 شركة تتخذ الرياض مقرًا إقليميًا لأعمالها، أسهمت هذه الشركات في نقل التقنيات الحديثة، وفي تطوير الكفاءات السعودية، وتعزيز النمو الاقتصادي من خلال مشاركتها في مشاريع ضخمة.
وتُصنّف الولايات المتحدة واحدة من أهم الوجهات الاستثمارية لصندوق الاستثمارات العامة، إذ يعمل الصندوق من منظور إستراتيجي بعيد المدى على بناء شراكات نوعية وتمكين متبادل للقدرات، بما يعزز التكامل في سلاسل القيمة والتمويل والابتكار، واستحوذت أميركا على 40 % من محفظته العالمية؛ مما يعكس الثقة الكبيرة في الاقتصاد الأمريكي واستقراره، كما أن المملكة مستمرة في استقطاب الشركات الأمريكية الكبرى للمشاركة في مشاريعها الإستراتيجية ضمن رؤية 2030.
هذه الضخامة في الالتزام الاستثماري ليست مجرد مبالغة إعلامية، بل تعكس حقيقة أن السعودية أصبحت وجهة اقتصادياً استراتيجياً لأمريكا في وقت تواجه فيه تحديات عالمية اقتصادية عدة. فالمملكة توفر طاقة مستقرة، استثمارات بعيدة المدى، وشراكات مبتكرة في التكنولوجيا الحديثة والمعادن الحيوية، ما يساعد الولايات المتحدة على سد فجوات اقتصادية مهمة لديها، وهنا نرى تصدّر الصادرات السعودية إلى أمريكا هذا العام منتجات المعدِّن (معدنية) بنحو 10.0 مليار دولار، وأسمدة تقدر بـ830 مليون دولار، وكيميائيات عضوية بـ 526 مليون دولار، بينما استوردت السعودية من الولايات المتحدة في 2024 سلعًا تساوي 19.7 مليار دولار، وفق بيانات المنتدى نفسه، وبلغت الواردات وفق تقرير صندوق النقد الدولي (IMF)، من الولايات المتحدة في 2024 نحو 19.5 مليار دولار، وتشمل بالأساس ماكينات ومعدات كهربائية، ومعدات نقل، ومنتجات كيميائية. وبلغ إجمالي التجارة (بضاعة وخدمات) بين البلدين حوالي 39.5 مليار دولار في 2024، منها 26.0 مليار دولار تجارة بضائع، بينما بلغت الصادرات الأمريكية إلى السعودية بلغت حوالي 13.18 مليار دولار في 2024.
أما من جهة الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI): احتلت الولايات المتحدة مرتبة مهمة بوصفها مستثمرًا كبيرًا في السعودية، حيث بلغت الأسهم المتراكمة (FDI stock) حوالي 54 مليار دولار حتى 2023، وجاء توزيع هذا الاستثمار الأمريكي في السعودية كالتالي: نحو 25.3 مليار دولار في قطاع النقل والتخزين، 13.0 مليار دولار في التصنيع، و2.4 مليار دولار في قطاع التجزئة، أما من وجهة نظر الاستثمار السعودي في الولايات المتحدة، وفقًا لبيانات برنامج SelectUSA التابع للحكومة الأميركية، فالمخزون (stock) من الاستثمار السعودي في الولايات المتحدة يصل إلى 16.3 مليار دولار حتى 2024.
من جهة أخرى، هذا العمق في التعاون الاقتصادي يعيد تشكيل الأبعاد الجيوسياسية في المنطقة. تعزيز العلاقات السعودية-الأميركية بهذه القوة يثير تساؤلات دولية، بخاصة من جهات مثل إسرائيل، التي قد تراقب هذا المد المتنامي بنظر قلق، إذ إن النفوذ الاقتصادي المتزايد للمملكة قد يترجم إلى تأثير سياسي أكبر في ملفات إقليمية حساسة، مما يعيد رسم موازين القوى. في الوقت ذاته، يمكن لهذا النوع من الشراكة أن يكون رافعة للاستقرار إذا ما استُخدم كمنصة للتنمية المشتركة، بدلاً من التصعيد، عبر بناء التعاون التكنولوجي، والأمني، والاستثماري.
وختاماً: ما ظهر من هذه الزيارة ليس دورًا هامشيًا للسعودية، بل فرضًا حقيقيًا في النظام الاقتصادي الدولي - شريك لا غنى عنه لأمريكا، ورمز لطاقتها في تقديم حلول اقتصادية بمنظور عالمي وما يؤكد هذا قول الأمير محمد بن سلمان: «إن قدرتنا على الشراكة مع العالم ليست خيارًا فرعيًا، بل هي رسم لمستقبل أكثر ازدهارًا، وأكثر تعاونًا، وأكثر تأثيرًا للسعودية ولشركائها».