د.عبدالله بن موسى الطاير
لخمسة وعشرين عامًا، بحثت في العلاقات السعودية الأمريكية بشغف، زاده إلحاحا أحداث 11 سبتمبر 2001م، وتداعياتها على الأراضي الأمريكية وخارجها، حيث عشت بأمريكا سنة قبلها، وبعدها بثلاث سنوات، وأصدرت كتابي بعنوان «أمريكا التي لن تعود» عام 2005م. ما تعلمته من تلك الحقبة وما بعدها أنه لا توجد علاقة ثنائية أخرى في الشرق الأوسط تُضاهي في امتدادها وثباتها هذه العلاقة الواقعية، والمربحة للطرفين السعودي والأمريكي.
قد يشكك البعض في روايتي، ويدفع بنموذج آخر هو علاقات واشنطن بتل أبيب، فأوضح أن أمريكا تدخلت ضد إسرائيل عام 1956م، وأن العلاقة المزدهرة مع إسرائيل تعود لعهد الرئيس ريجان، ولم تكن قبل ذلك بهذا المستوى من القرب.
بدأت العلاقات السعودية الأمريكية بهذا التميز عام 1942م، أي قبل قيام دولة الاحتلال بستة أعوام، عندما فاجأ فرانكلين روزفلت إدارته بإعلانه أن أمن السعودية هو جزء من أمن الولايات المتحدة الأمريكية.
أدت زيارة الأمير فيصل (الملك فيصل، رحمه الله) إلى واشنطن في سبتمبر 1943م، إلى تأسيس علاقة استراتيجية بين دولة فقيرة ماديا، غنية بأخلاقها ومبادئها والقيم التي قامت عليها، للتو انتهت من معارك التوحيد، لكنها تنظر بطموح نحو المستقبل. في حفل العشاء الذي أقيم على شرف الزائر السعودي، قال روزفلت من ضمن ما قاله في كلمته أنه يتطلع لليوم الذي يناقش السعوديون والأمريكيون فيه قضاياهم كأصدقاء.
تلك الزيارة مهدت للقاء التاريخي عام 1945م الذي جمع بين الملك عبد العزيز وروزفلت على متن السفينة يو إس إس كوينسي، وأعلن شراكة استراتيجية تدخل الآن عقدها التاسع، مبنية على الاحترام المتبادل، والثقة، والمصالح المشتركة.
إذا كان اجتماع كوينسي قد حدّد ملامح القرن العشرين، وفي البيت الأبيض إذ ذاك رئيس ديموقراطي، فإن زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وفي المكتب البيضاوي قائد جمهوري قد حدّدت أجندة القرن الحادي والعشرين، وأكدت أن نجاح هذه العلاقة وتناميها عابر للأحزاب والأجندات المحلية، فالعلاقة بنيت في الأساس بين المملكة وأمريكا.
الأمير محمد بن سلمان أضفى على العلاقة من روحه وشخصيته ورؤيته ما لم يكن موجودا من قبل؛ رمزية الاستقبال بعثت رسائل غاية في الوضوح عن أهمية الدبلوماسية الشخصية؛ تحية بـ21 طلقة مدفعية، ومرافقة سلاح الفرسان على طول شارع بنسلفانيا، وتحليق طائرات إف-35 في سماء العاصمة، وقف الزعيمان في الحديقة الجنوبية، وأعد غداء خاص في مقر الإقامة، أعقبه عشاء دولة حضره السياسي والاقتصادي، والتاجر والتقني والرياضي.
استقبل الرئيس ترامب الأمير محمد بن سلمان قائلاً: «أهلاً بعودتك يا صديقي محمد»، ووصف ولي العهد مرارًا بأنه «قائد عظيم لأمة عظيمة»، وهي الأوصاف ذاتها التي قالها الرئيس روزفلت في الثناء على الملك عبدالعزيز رحمه الله قبل أن يلتقيه.
أريحية الأمير محمد بن سلمان أمام وسائل الإعلام، وحديثه وإجاباته الواثقة أغنتنا عن أية حملات إعلامية أو دبلوماسية عامة، لقد أجاب عن الأسئلة الصعبة التي لطالما تحاشاها غيره، ووقف أمام الإعلام العالمي مقدما سعودية القرن الواحد والعشرين بثقة ورباطة جأش، ومؤكدا أن الدول إذا قيست بساستها فهذا هو أمام الجميع، وإذا قيست بعمرها فإن المملكة ستحتفل بعد سنتين بمرور 300 عام على تأسيسها، وإذا كان القياس باقتصادها فإن المملكة تستثمر مئات المليارات في أمريكا، وتحتضن استثمارات أمريكية بمئات المليارات أيضا. وإذا كانت رمزية الاستقبال البروتوكولي مميزة فإن النتائج فاقته في الأثر والاستدامة.
ولي العهد لم يتنازل، ولم يجامل، فقد أبلغ الرئيس الأمريكية أن الاستثمارات السعودية ليست محاباة، وإنما قناصة فرص ترى في السوق الأمريكية فرصة استثمارية لا مثيل لها، ولم يتنازل قيد أنملة عن الحق الفلسطيني، فعندما سُئل عن التطبيع مع إسرائيل، كرر بهدوء موقف المملكة: مسار لا رجعة فيه نحو دولة فلسطينية.
المملكة تتعامل بمنافع متبادلة على عكس إسرائيل، ذلك الحليف الذي يُكلف الخزانة الأمريكية مليارات الدولارات من المنح السنوية، وحق النقض المتكرر في الأمم المتحدة، الذي يلحق ضررًا بالغًا بسمعة أمريكا في دول الجنوب العالمي. تدفع المملكة ثمن أسلحتها، وتستثمر مئات المليارات مباشرة في الوظائف والتكنولوجيا الأمريكية، وتستقر أسواق الطاقة بناءً على سياساتها النفطية، وتضطلع بدور بناء في منطقتها والعالم، وكنا كمواطنين سعوديين نريد من الأمريكيين الاعتراف العلني بتميز هذه العلاقة، فكانت الزيارة الأخيرة لحظة فارقة هرمنا من أجل أن نعيشها.
الزيارة أعادت ترتيب الأولويات السعودية الأمريكية. الرسالة الأمريكية واضحة لا لبس فيها؛ في عهد ترامب، الرياض، وليس غيرها، هي الشريك الذي لا غنى عنه. وفي الوقت الذي تزدهر فيه العلاقات السعودية الأمريكية، تزدهر العلاقات السعودية الصينية والروسية، والأوروبية مما أكسب المملكة ثقة جعلت منها الدولة الموثوقة القادرة على الحديث مع جميع الأطراف.