د. غالب محمد طه
حين أُطلقت رؤية 2030، ظن كثيرون أن الطموح السعودي سيذوب أمام التحديات الاقتصادية والسياسية، وأن المشاريع الكبرى ستظل مجرد شعارات براقة وصور جميلة على الورق، إلا أن المملكة اختارت أن تسلك طريقًا مختلفًا، طريقًا يقوم على الصبر الاستراتيجي الذي لا يقتصر على التحمل فحسب، بل على بناء القدرات على المدى الطويل، وتحمل الصعوبات الآنية، من أجل صناعة تحول شامل يمس الاقتصاد والسياسة والمجتمع، ويضع أسسًا متينة لمستقبل يليق بمكانتها ويؤكد قدرتها على المضي قدمًا حتى في أصعب الظروف، وهو نهج ليس جديدًا على السياسة السعودية، إذ إن التدرج والواقعية كانا دائمًا سمة بارزة في إدارة الدولة منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز، حيث امتزج الثبات على المبادئ بالمرونة في مواجهة التحولات.
واستمر هذا النهج مع تعاقب القيادات، حتى جاءت رؤية 2030 لتضيف إليه طموحًا حديثًا يواكب العصر، ويضع المواطن السعودي محورًا أساسيًا في عملية التحول، ليكون حلقة الوصل بين إرث الأجداد وطموح الأجيال القادمة، ومشاركًا فاعلًا في رسم مستقبل المملكة وقيادتها لمسار التنمية.
واليوم، لم يعد الصبر الاستراتيجي مقتصرًا على الداخل فقط، بل أصبح إطارًا يوجّه السياسة الخارجية أيضًا، وهو ما تجسده زيارة ولي العهد إلى واشنطن، والتي يتابعها السعوديون باهتمام بالغ، إذ لا تُقرأ كمجرد حدث دبلوماسي، بل تأتي مقرونة كتعبير عن فلسفة جديدة في إدارة القوة الدولية، قوة تُقاس بالقدرة على إنتاج المعرفة وتوظيف الاقتصاد الحديث وجذب الاستثمارات وصناعة بيئة حاضنة للابتكار، أكثر مما تُقاس بالموارد أو السلاح، وهو النهج الذي يضع المملكة في قلب النقاش العالمي حول مستقبل النظام الدولي، ويحولها من مقعد المتأثر بما يجري إلى مقعد اللاعب الفاعل الذي يشارك في كتابة قواعد اللعبة وصياغة التحولات الكبرى في السياسة الدولية، بما يعكس قدرة القيادة السعودية على الجمع بين الثبات على المبادئ والمرونة في استثمار الفرص.
المشاريع الكبرى مثل «نيوم»، ومبادرات الذكاء الاصطناعي، والاستثمارات في الرياضة والثقافة والترفيه، ليست مجرد مشاريع اقتصادية، بل أدوات قوة ناعمة تصنع تأثيرًا عالميًا، وتربط بين الاقتصاد والسياسة والمجتمع بطريقة تجعل القرارات السعودية محل اهتمام عالمي، وتؤكد أن المملكة نموذج فريد يجمع بين الطموح الاقتصادي والاجتماعي والابتكار، ويبرهن أن الرؤية ليست شعارًا على الورق، بل ممارسة عملية تؤثر في بيئة الاستثمار العالمي وتفتح أفقًا للتجارب الجديدة في مجالات التقنية والطاقة والتنمية البشرية، كما أنها تعكس الطموح السعودي لرفع مكانة المملكة عربياً ودولياً على حد سواء.
اقتصاديًا، بدأت نتائج رؤية 2030 تتجلى بشكل ملموس من خلال تنويع مصادر الدخل، وتطوير الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتوسيع قاعدة السياحة والخدمات المالية، وتعزيز الابتكار التكنولوجي، ليصبح الاقتصاد السعودي نموذجًا عمليًا للمستثمرين المحليين والدوليين، ويشكل بيئة حاضنة للتجارب الجديدة التي تعكس قدرة المملكة على تحويل الطموح إلى واقع قائم على الإنجاز، وهو ما يؤكد أن الصبر الاستراتيجي لا يقتصر على الخطط المستقبلية، بل يمتد ليؤثر بشكل مباشر في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويجعل المملكة لاعبًا مؤثرًا في النظام العالمي.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن المواطن السعودي يلمس التحولات في حياته اليومية من خلال فرص عمل نوعية، وتعليم متطور، وخدمات صحية أفضل، بالإضافة إلى تمكين الشباب والمرأة، فالرؤية وضعت الإنسان في قلب التنمية باعتباره الركيزة الأساسية لاستدامة الإنجازات، ليس فقط باعتباره أرقامًا اقتصادية، بل كمجتمع قادر على المنافسة عالميًا وصنع الفارق، بحيث يصبح هذا الإنسان شاهدًا على قدرة المملكة على الجمع بين الطموح الحضاري والاقتصادي والاجتماعي، بما يعزز الثقة الداخلية ويدعم تطلعات المجتمع.
خلال العقد الماضي، أثبتت المملكة أن التغيير الحقيقي لا يُقاس بسرعة الإنجاز، بل بقدرتها على بناء مؤسسات قوية، واقتصاد متنوع، ودور دولي مستقل، وهو ما يجعل السؤال اليوم لا يقتصر على إمكانية نجاح رؤية 2030، بل يمتد إلى تأثير هذا النجاح على شكل النظام العالمي بأسره، وعلى انعكاساته في استقرار المنطقة بأسرها، وعلى قدرة المملكة في أن تكون رافعة للطموح العربي ومصدر إلهام للاستقرار والتنمية، وأن يكون الصبر الاستراتيجي نموذجًا عمليًا يوازن بين رؤية مستقبلية وطموح عربي متجذر في التاريخ، بحيث تضع المملكة نفسها لاعبًا رئيسيًا في إعادة تشكيل النظام العالمي، ومرجعًا في الاستقرار والتنمية على مستوى العالمين العربي والإسلامي، لتؤكد أن نجاحها لا يُقاس بالقوة العسكرية فقط، بل بالقدرة على التأثير الحضاري والاقتصادي والاجتماعي، وصياغة بيئة أكثر استقرارًا وتوازنًا، مع الحفاظ على دورها كمركز قيادي يعكس الطموح العربي في التنمية والاستقرار، ويجعل من المملكة مثالًا يُحتذى به في القيادة والمسؤولية.