خالد الغيلاني
لا توجد حرية بدون نظام هذا شيء متفق عليه تمامًا، ففي إطار الأنظمة تتحدد الحريات وتتشكل التفاعلات الإنسانية، وكما لا توجد حرية بدون نظام لا توجد أخطاء بدون نظام، وإذا اقترفنا آلان باديو الفيلسوف الفرنسي بنحوٍ ما وافترضنا نظامًا رياضيًّا يحكم الوجود كما في كتابه: «الوجود والحدث» لا يعدو الوجود عنده أكثر من عدد كبير من العناصر والعلاقة بين «الانتماء» و«الاحتواء» هي ما يشكل البنية الأساسية لكل ما يوجد فباديو لا يقول: إن الكون مكون من أرقام ومعادلات أو رموز رياضية بل إن المسألة علاقات الانتماء والاحتواء بين الأشياء التي أخذها من نظرية المجموعات أي: من ينتمي إلى من؟ ومن يحتوي من؟ وهي الهيكل الأساسي الذي يجعل الوجود قابلًا للفكر.
لكني أذهب إلى أكثر مما ذهب إليه باديو وأرى أن هناك علاقات رياضية لا بالمعنى الرقمي ولكن بالمعنى التركيبي، فهناك امتزاج في العلاقات الاجتماعية موزون إلى حد كبير متى داخله الخلل فإن نظام العلاقات يختل ويحصل الخطأ والاضطراب لأن المادة كما يتفق أهل العلوم موزونة وزنًا تركيبيًّا كيميائيًّا في ذاتها وفيزيائيًّا في حركيتها، والمعاني هي أيضًا موزونة في تركيبها وفي حركتها فإذا زادت عن حدها انقلب الموقف الذي هي فيه إلى موقف بائس، وإذا تحركت بأكثر مما ينبغي تجاه الطرف الآخر كانت حركتها سيئة ومضرة وتعود على صاحبها بالخذلان، ومن هذا كله ينشأ الخطأ في حياتنا كل هذا بسبب واحد سأوضحه فالكون كما نعلم موزون فيزيائيًّا لا خلل فيه وإنما المسألة في الحادث الفجائي الذي يخرق النظام ويهز المعادلة الكونية المنضبطة، وبالمثل في الإنسان يحدث فائض الانفعالات غير المحسوبة كميةً:خطأ لا بأس به وينتج عنها الانفصام في العلاقات أو انشراخ البنى الاجتماعية، وهذا قدر الإنسان فكيركجارد يقول الفرق بين الإله والإنسان أن الإله لا يخطئ.
والمجتمعات كلها تتحدد بين عنصرين هما الطاعة والمقاومة، ومنها تتشكل الجماعات والأحزاب الثورية والدول الحادثة والتنظيمات بشتى أنواعها والمؤسسات الاجتماعية والحركات التجديدية وطبيعة الحراك المجتمعي فلا بد من طاعة ولا بد من مقاومة يستمران معًا وتتفاوت نسبهما، ففي بداية نشوء الدول تكون الطاعة عمياء بلا بصيرة وما إن يمر الوقت وتتصرم الأجيال حتى تبدأ صورة المقاومة والدفاع كما قال الله {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} وفي الآية تقرير مسألة مهمة وهي القدر وأن كل شيء من صنع الله وفعله وأن الدفع من بالله بالبشر وذلك من الغيب الذي يقصر عنه عقل الإنسان مع إيمانه بوجوده حقًّا، فبين الطاعة والمقاومة يحدث الخطأ فتزداد المقاومة، ويشتد النزاع، ويكون بعدها الانتزاع عندما ينزع الله الملك ممن يشاء، ويهبه لمن يشاء كما في سورة آل عمران، وبالمثل التعسف في كل شيء والإباحة لكل شيء هما بالمثل طريقان أو ضدان يعملان مع بعضهما بعضا مثل الطاعة والمقاومة، ففي بداية نشوء الدول تكون الشدة والقبضة الحديدية وشيئًا فشيئًا تبدأ المقاومة فتذهب الدول إلى الإباحة شيئًا فشيئًا وبينهما تقع الأخطاء ويدب الوهن، ثم ماذا تتسع الإباحة إلى شيء يصعب معه زم الأمور فيقع ما وقع قبل في مفهوم الطاعة والمقاومة.
الفيلسوف الفرنسي جورج كانغليم له عبارة مهمة جدًا «الخطأ علامة التفكير» فالعقل الذي لا يعمل لا يخطئ، فالخطأ ليس مجرد نقص في المعرفة أو انحراف عن الصواب بل هو علامة التفكير ذاته أي الشرط البنيوي الذي يتيح للتفكير أن يتحرك ويتطور، ومنطلقه في هذا أن الخطأ سابق على الحقيقة في التجربة المعرفية لأن التفكير لا يبدأ من اكتمال الحقيقة، بل من التعثر، من الاصطدام بحد ما، من مواجهة ما لا ينسجم مع النسق القائم، الخطأ بهذا المعنى ليس فشلًا، بل تجربة إنتاجية تخلق وضعية معرفية جديدة، أي أن الفكر لا يعيش إلا بالخطأ الذي يحركه ومن ثم كل مفكر مخطئ وكل مخطئ مفكر، فالتقدم رهن الأخطاء، فالأمة التي لا تخطئ لا تتقدم فإذا رأيت مجتمعًا خاليًا من الأخطاء فاعلم أنه مجتمعٌ لا يفكر، لأن الثابتية ليست من شرط وجودنا بل وجودنا يتكون من التغيرية التي تنشأ عن الاصطدام، وهذا ما يفتح مجالًا واسعًا للمغفرة والتسامح لأن بهما أيضًا ندخل في تجربة إنتاجية مثمرة.
ويؤكد كانغليم أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه المصححة لأن كل نظرية علمية جديدة لا تبنى إلا على تجاوز أخطاء سابقة، فالخطأ يكشف حدود المفهوم، ويدفع العقل إلى بناء مفاهيم أكثر دقة، ويساعدنا على تجاوز كثيرٍ من المشاكل التي حدثت في النماذج السابقة بشكل عام سواء في داخل المجتمعات أو المعامل العلمية وإذا تأملت آدم أول البشر فقد ابتدأ حياته بالخطأ الذي أتاح لأبنائه أن يقيموا عالمًا عظيمًا ويدخلوا في تجربة إنتاجية كبيرة ويكون خطأ آدم مهما جدًا في تحديد طبيعة الإنسان عندما تحدد بين الخطأ والاعتذار (التصحيح) كمحددين لكل العمليات الإنسانية في هذه الحياة، وعلى هذه الأرض، وهكذا يصبح الخطأ مرحلة من مراحل الحقيقة لا نقيضها، فالحقيقة لا تحدث عند انتفاء الخطأ، بل تنتج من حدوثه: لا توجد حقيقة بشروطها الوجودية دون خطأ سابق كشف ضرورة إنتاجها.
وكما يرى كانغليم أن الخطأ جزء من الحياة نفسها كما ذكرنا سابقًا لأن الكائن الحي سواء في البيولوجيا أو في الفكر، لا يمكن أن يتطور دون تجربة الاختلال والانحراف، فكما أن المرض في الجسد ليس مجرد خلل بل هو طريقة للتعافي عندما تتغلب قدرة الكائن على تجاوز وضعه وهو دليل على فعالية الجسد في المقاومة والتجاوز.
قد يقول قائل: إن بعض الأمراض تقضي على الإنسان حيث لا مكان للتجاوز فيكون الجواب أن هذه فرديات ككثير من الأمراض التي استطاع العلم أن يتجاوزها بعد عدد هائل من التجارب والمقاومة من الخطأ والتصحيح حتى انتهت كثير من الأمراض، وما زال العلم يستفيد من أخطائه ويحاول أن يتجاوز كل العقبات حتى يصل إلى التصحيح الكامل، على أن الأخطاء لن تنتهي ومحاولة التجاوز ما زالت مستمرة، وهذه طبيعة الوجود الإنساني بين الخطأ والتصحيح وبما أن هذا الخطأ والتصحيح يشمل المكونات الكبرى فربما تكون بعض الأنظمة والحكومات الناشئة عمليات تصحيحية لأخطاء سابقة، وهذا هو التفكير وبذلك تكون العبارة السابقة «الخطأ علامة التفكير» لكانغيلم عبارة صحيحة تمامًا.