رقية سليمان الهويريني
تشير أصابع الاتهام بالفساد لبعض الممارسات في قطاعات حكومية وفي شركات، ويقاس معدله غالبا بالهدر المالي، والتأخير في تنفيذ المشاريع وتعثرها، فضلاً عن التقاعس في خدمة المراجعين وإعاقة معاملاتهم وتسويفها.
وإن كان مفهوم الفساد لدى الأغلبية يتركز في الأمور المالية؛ إلا أن مفهومه الحقيقي أشمل من ذلك بكثير، فالظلم بين الناس فساد، والاعتداء على النفس والعرض والمال فساد كبير، وكذلك الجور على الضعفاء.
كما يشمل الفساد الدائرة المحيطة بالمفسدين عن طريق بث أخلاق وصفات وأفكار ودعاوى الفساد والإسراف فيها ونشرها حتى يتعدى أثرها إلى غير أصحابها، ولهذا قال النبي صالح عليه السلام ناهياً قومه عن التأثر بالمفسدين: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}.
بل إن الفساد اقترن بزرع الفتن والتحريض وإشعال نار الحروب وتمويلها ودعم الأطراف المتحاربة ما لم تكن نصرة للدين: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
كما ارتبط الفساد بالتجارة في حالة التدليس في البيع والشراء سواء في الغش بالصفقات الكبرى أو بالتعاملات البسيطة: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
ولم يقف أمر الفساد في الأرض بل تعداها إلى البحر بسبب سوء سلوك الناس وأفعالهم {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
ومن المؤكد أن مصداقية الإنسان تكون بانسجام معتقده مع سلوكه، وكل تعارض أو تضارب بينهما يفقده المصداقية ويسقطه في الفساد لأن السلوك ينبغي أن يكون دلالة على معتقد نظيف.
وفي أغلب المواضع القرآنية لم يربط الله الفساد بمعتقد الإنسان ودينه ولكنه قرنه بعمل الإنسان وفعله ونتاجه وعلاقاته وروابطه.
وانتشار الفساد وبالٌ على الناس جميعاً، وهو رهين الهوى، فلا يكاد يخرج الفساد عن الأهواء والرغبات الدفينة في النفس كاللجوء للرشوة والسرقة والطمع: مصداقا لقوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنّ}.
والحق إنني تعجبت من تغلغل الفساد في كل منحى في الحياة، وقد ذكره القرآن في مواضع كثيرة وأشار فيه إلى هلاك الناس: {وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}. ونتائجه على المجتمع سيئة، ويعاقب حتى غير المسيء لأنه سكت عنه ولم يقاومه مثلما أنزل الله العقوبة على قوم صالح جميعهم برغم أن من عقر الناقة فئة قليلة. ولكن في الآخرة لا يحاسب إلا المفسد. {وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}.
ولأن محاربة الفساد حياة للأمة واستمرار رغد عيشها؛ فإن كل أفراد المجتمع مسؤولون، وإن لم يفعلوا عمَّهم الشر وهم لا يشعرون!