د.محمد الدبيسي
..إنَّ اهتداء الأنصاري لاختيار الاستفتاءات؛ سبيلًا من سُبلِ تنشيطِ حركة الأدب، والدَّفعِ بها إلى ميدان الصحافة الأدبية بواسطة المنهل، كان إدراكًا منه لحاجة تلك الحركة -التي لم تزل آنذاك تتكوَّنُ وتترسَّمُ طريقها- إلى وسيلةٍ تَصِلَها بجمهور القُرَاءِ، الذي يتلقَّى ما يكتبه الأدباء، وبالمجتمعِ الذي كان أولئك الأدباء؛ توَّاقينَ إلى ما يساعد على نهوضه، والارتقاء به.
وقد أظهرت إجاباتُهم المتنوعةِ؛ ملامحَ من المرتكزاتِ الفكريةِ والمعرفيةِ لكلٍّ منهم، وجوانب من تكوينه الثقافي، والمسافة بينه وبين آحاد مجايليه، أو نَفرٍ منهم، أو جميعهم، في الوعي والرؤية، وفي الصياغة التعبيرية التي نهضتْ بإجابة كلٍّ منهم، عن هذا الاستفتاء، أو ذاك.
ولم يكن اهتمامُ الأنصاري باستفتاءات المنهل؛ إلَّا مثالًا على وعيه بدور الصحافة الأدبية، ورسالتِها التي نهضَ بما يخصُّه منها بواسطة المنهل، والاستفتاءاتُ من أهمِّ أبوابها، لأنَّها «تُلقي مزيدًا من الضوءِ على بعض الزَّوايا في أدبنا المعاصر، ومن شأنها كذلكَ أنْ تكشفَ بعض وُجهاتِ النَّظر الكامنةِ لدى بعض الأدباء والمفكرين، التي تشكِّلُ دافعًا خفيًّا، يقفُ خلفَ توجُّهاتِهم المحدَّدَةِ، نحو الثقافةِ عمومًا، والأدبِ على نحوٍ خاصٍ، كما أنَّها محاولةٌ للنقد الذاتيِّ، أو التقويمِ من الداخل، بحيث نستطيعُ أنْ نُعيدَ حساباتِنا مع أنفُسِنا، ومع مُحيطِنا، في ضوءِ الَّنتائجِ التي تُسفِرُ عنها مثلَ هذه الاستفتاءات».
وقد ذكرنا سابقًا، ما تأكَّدَ من تجلِّياتِ وعي ذلك الجيل، بالمسؤولية عن الأدب، وأنَّهم قوَّامونَ على شؤونه وقضاياه، غيورونَ عليه، حريصونَ على ما يرفعُ شأنَه وينمِّيه، في الاتجاه الذي كان يرون صوابَهُ ووجاهتَهُ، بدافعٍ من وعيهم الفكري والثقافي آنذاك، واستشرافِهم مستقبلَ ذلك الأدب.
وإلى ذلك، ومن لَطائِفِ الأنصاري، أنَّه بعدَ أنْ نشرَ استفتاءً بعنوان: (أدبُنا السُّعوديِّ الحَديثِ في الوقتِ الحاضرِ..هل هو صَاعِدٌ، أو رَاكدٌ، أو مُتدَهور؟)، شاركَ فيه (عشرون) أديبًا سعوديًا، من روَّادِ الأدبِ في تلك المدةِ، ونُشرَ الجزءُ (الأوَّلُ) منه في المنهل، مج 39، جمادى الآخرة ورجب/1398ه= مايو ويونيو/1978م، ونُشرَ الجزءُ (الثاني) في العدَدِ الصادِرِ في شهر شوال، من العام الهجري نفسه. وحين تلقَّى الأنصاري الإجاباتِ عنه، نشَرَها في عددينِ متتاليينِ؛ قيامه في عام 1399ه=1979م، بالدعوة إلى تأليفِ لجنةٍ سمَّاها: «اللجنَة الأدبيّة السُّعودية السُّداسيَّة لتقويمِ الأدبِ السُّعودِيِّ الحَديثِ في الوقتِ الحَاضِرِ»، وتألَّفتِ اللجنَةُ من (ستَّةِ) أدباء، هم: محمد سعيد العامودي، وهاشم محمد سعيد دفتردار (ت1418ه1998م)، وحسين عرب، وعبدالقدوس الأنصاري، ومحمود عارف (ت1421ه=2001م)، وعلي حافظ، الذين ذكرتِ المنهلُ: «إنَّهم قاموا بتمحيصِ الآراءِ والمقترحاتِ، واتخاذ قرارٍ في هذا الشَّأنِ، على ضوءِ ما وَرَدَ في إجاباتِ العِشرينَ أديبًا الذين شاركوا في الاستفتاء».
وصِيغَ الخبرُ الذي أوردتْهُ المنهل: (أمانة اللجنة)، بأدبياتِ اللجانِ الرسمية، التي يُعهدُ إليها عادةً القيام بمثل هذه الأدوار، وجاء في نَصِّ القرارِ الذي أصدرُوهُ، قولهم: «بعد تَبادُلِ اللجنةَ الآراءَ حيالَ وضعِ الأدبِ السعوديِّ الراهنِ، على ضوءِ واقعِهِ المبحوثِ عنه، وماضيه المُلاحظِ، وبعد فحصِ الآراءِ رأيًا رأيًا، من جميعِ أبعادِها وسائرِ مضامِينها، انتهتِ اللجنة إلى تقرير مايلي..» إلخ، بهذه اللغةِ التي اتَّخذتْ رسْمًا إداريًّا مُلزِمًا، أو أوْحَتْ بذلك، وهو أمرٌ غير واردٍ هنا، لأنَّ الموضوع برمَّتهِ محضُ اجتهادٍ فرديٍّ من الأنصاري ورفاقه، ومبادرة وجيهة منهم؛ دافعها حسُّهم الأدبي، وطموحهم الثقافي، وتطلعهم لمستقبلٍ مزدهرٍ لحركةِ الأدبِ الوطني.
وقد اصطبغَ ذلك الخبرُ الصحفي في المنهل؛ بتلك الصِّبغةِ الإلزاميَّةِ، لتصديرِ دلالةِ الجدِّية، والتعبير عن الموقف الثقافي تجاه الحركة الأدبية، واستدعاء الشعور بالمسؤولية عنها، في ذلك الحين الذي كان فيه أعضاءُ اللجنةِ، والمشاركون في الاستفتاء؛ من الطليعة الأدبية، والنخبة المثقفة في بلادنا.
ومما يظهرُ عمقَ نظرِهم في واقعِ الأدب في ذلك الوقت، وأُفقَ تصورهم العميق لطرائق النهوض به، واستشرافهم مستقبله بحكمةٍ، ووعيٍ بما يجب القيام به؛ ما جاء في التوصياتِ التي انتهوا إليها، ومنها قولهم: «أنْ تتبنَّى وزارةُ الإعلامِ تنشيطَ حركةَ التَّأليفِ، بتشجيعِ المؤلِّفِين، ونشرِ إنتاجهم على حسابِها، مقابلِ مكافأةِ المؤلِّفِ مكافأةً مُجزيةً. والاهتمامُ بالمؤلِّفِينَ المتفرِّغين، وإعطائهم بدلَ تفرُّغٍ حسب إنتاجهِم قلةً وكثرةً وجودةً، وبقدْرِ جهودهم في التَّأليفِ الجيِّدِ المفيدِ، مع حِفظِ حقوقِهم، وتقترحُ اللجنةُ تأسيسَ دارٍ خاصةٍ بالتَّأليفِ والنشرِ، يشرفُ عليها نفرٌ من الأدباءِ المرمُوقينَ القادِرينَ على التَّمْييزِ» إلخ.
وإلى ذلك، فلم تكن الاستفتاءاتُ محصورةً في قضايا الأدب فقط، بل كانت مواكبةً أهمَّ القضايا الوطنية العامة، في تلك المدة، مثل قضايا التنميةِ والاقتصادِ، والصناعةِ والتعليم، وبعض القضايا العربية.
ومع أنَّ الأنصاريَّ كان أديبًا بالجِبِلَّةِ والتجربةِ والإنجاز، ورئيس تحرير مجلة أدبية، ومعنيُّ بقضيةِ الأدبِ إلى حدٍّ كبير، إلا أنَّه كان أيضًا مهتمًا برواجِ مجلته وانتشارها، فكان من استفتاءات المنهل، أوَّليةً ساقها الأنصاري على سبيل الاعتداد بها، وهي أنَّ المنهلَ» أوَّلُ صحيفةٍ وطنيةٍ استفتَتْ قُراءها عمَّا يُعجبُهم، وما لا يُعجبُهم من موضوعاتِها، ونشرتْ أجوبتَهُم، وكان ذلك في عام 1366ه، ومنها اقتبستِ الصُّحُفُ ذلك بعدئذ».
وخلاصةُ القول في هذا المبحث: الاستفتاءات؛ أنَّ مؤسِّسَ المنهل اختاره بابًا رئيسًا من أبوابها، واجتهد في أن يَظهرَ بالصُّورة المعبِّرة عن ثقافة عصره وشواغله، واقتطع له من اهتمامه، ما يضمنُ له الظهورَ بمظهرٍ ومخْبرٍ يفيدان القُّرَاء، ويثريانِ معرفتهم بالموضوعاتِ التي كانت تُطرح في الاستفتاءات، ويؤكِّد دور المجلة الثقافي، الذي قامت به بإخلاصٍ يستحقُّ التقدير.
ويُمكن عدُّ الاستفتاءاتِ على هذا النحو، ثُمَّ بفضائها الدلالي، ومواردها في تاريخ أدبنا، وفي المنهل خاصةً؛ ثقافةً تتيحُ للباحثِ التعرُّف على اتجاهاتِ الرأي الثقافي، والاجتماعي، والوقوفَ على طرائق تفكير من شاركوا فيها، الذين لم يكونوا جميعهم من النُّخبَةِ المثقفةِ الخُلَّص، وإن كان جُلُّهم من المعنيين بشؤونِ الأدب وقضاياه. فيما كان ثمَّةَ طبقةٌ من الأدباء والمثقفين، لها آراءٌ وأفكارٌ مغايرةٌ في أحوالِ تلك الحقبة، وقضاياها، لم تتضمَّنها تلك الاستفتاءات، ولهذا حديثٌ آخر في غير هذا المقام.
كما أنَّ الاستفتاءات في وجهٍ من وجوهها؛ مقالاتٌ أرادَ الأنصاريُّ من أولئك الأدباء كتابتها، في قضايا بعينها اختارها لهم، وتضمَّنت آراءهم في تلك القضايا، وهي على هذا النحو؛ يمكِنُ دراستُها ضمن جنس المقالة الأدبية، لأنَّها احتوتْ عناصر المقالة، ورامتْ بعضَ غاياتها.
ولم تكن جميع استفتاءات المنهل نثرية، بل كان ثمة (استفتاءاتٌ شِعريَّة)، راجت في تلك المدة، وعُنيت بها المنهل، وصاحبها، ولم تخل من الطَّرافة، والتعبير عن الحالة الذهنية والنفسية للأدباء آنذاك، يقول الأنصاري: «وفي ذلك العهد، كانت الاستفتاءات الغَزَلية الشعرية؛ متداولةً مألوفةً بين طوائف الأدباء في مكة والمدينة، فكانت صِلةَ الوَصْلِ بين أحاسيسهم وعواطفهم، وبين بعضهم، على بُعدِ الشُّقَّةِ بينهم، إذ ذاك»، وأظهرت مقدرتهم الشعرية، واستوعبت الخواطر الفكرية والوجدانية، التي كانت تلوح لهم، ويعبِّرون عنها شعرًا، يتبارون بواسطته في إبراز مقدرتهم الفنيةِ على نظمِهِ في أغراضٍ محدَّدَةٍ، وإدراك الدلالات الخفية في مضامينه، وإصابة مُرادَ الشاعر (المُسْتَفْتِي).
وكان الشعر على ذلك النمط؛ أقرب مايكون للمُفَاكهةِ، والتنفيس العاطفي عن حالاتٍ معينة، لم تخل منها أوساط الشعراء آنذاك، وغير خافِيةٍ أبعادها الفكرية والثقافية والاجتماعية، وأورَدَ الأنصاري في سياق حديث الآنفِ؛ نماذج من تلك الاستفتاءات الشعرية، في ترجمته الشاعر المدني عبدالحق رفاقت علي (ت 1374ه=1954م)، يقول: «وقد خاضَ شاعرُنا هذا البحر، بقصيدةٍ رائعةٍ، أجابَ بها عن استفتاءٍ غزليٍّ، صُبَّ في بيتين، هما:
إذا ظهر الصدود من المفدى
وشح على المحب بريق فيه
أيترکه ويسلو عن هواه؟
وإلا يستقيم ويرتضيه؟
والقصيدة: الفتوى، التي نظَمَها عبد الحق جوابًا عن السؤال السابق؛ سارتْ بها الرُّكبانُ، وتناقلتها المجالسُ الخاصة والعامة إذ ذاك، وعُرِفَ بها قدْرُ شاعرنا في مختلف أوساط الحجاز، التي يستهويها هذا اللون من الآداب، ولا أستبعد أن تكون قد حُفِظَتْ من شُداة الفنِّ، وذوي الغناء والطَّرب، وربما تكون لُحِّنَتْ وأُنْشِدَتْ في بعض المجالسِ يومئذٍ، قال:
عجبتُ لمن يلوم شجىَّ قلبٍ
على طلبِ الوصال ويحتويه
ويزعم أن لثم الثغر يفضي
إلى فعل القبيح فيزدريه
يتبع..