هدى بنت فهد المعجل
في كتاب «لهيب شمعة» يقودنا غاستون باشلار إلى منطقةٍ من الوعي لا تُدرَك بالمنطق وحده، بل تُرى بالحدس، وتُلامَس بالخيال، وتُسمَع بنبض الداخل. فالشمعة عند باشلار ليست مجرّد لهبٍ ثابتٍ على فتيل، بل هي نقطة تماس بين العالمين: عالم المادة وعالم الروح، بين الممكن واللاممكن، بين السكينة والاحتراق. إنّها كائن صغير من نور، يشعل في النفس سؤالًا قديمًا: كيف يصبح الاحتراق وسيلة للصفاء؟
يأخذنا باشلار إلى فكرة أنّ التأمّل في الشمعة ليس فعلًا بسيطًا، بل تجربة وجودية. فالنظر إلى اللهب الراقص يشبه النظر إلى روحٍ تُصارع كي تبقى متماسكة، رغم الرياح التي تتربّص بها. في هذا اللهب، يكتشف الإنسان استعارةً عن ذاته: جلّ ما يملكه هو هذا الضوء المتواضع، الذي يحاول حمايته من عواصف الحياة. ومع ذلك، فإن ما يحفظ ضوء الإنسان ليس الصراع مع الريح، بل الإيمان بأنّ الهشاشة ليست ضعفًا، بل شرطٌ من شروط النور.
يتحدّث باشلار عن الخيال كأنه موقدٌ داخلي، يرى أن الشمعة ليست للإضاءة فحسب، بل لتذكير الإنسان بأنّ النور الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل من الداخل. إنها لحظة يتوقّف فيها الزمن، ويتحرّر فيها الفكر من ضجيج العالم، ويتحوّل اللهب إلى مرآة يرى فيها المرء ما لم يجرؤ أن يراه في نفسه؛ فالهدوء المحيط بالشمعة يتيح للنفس أن تنصت إلى ظلالها، وأن تعترف بتناقضاتها دون خوف. هنا، يصبح التأمل في الشمعة ضربًا من الاعتراف الداخلي، أشبه بشعلة تحرق الأقنعة التي نرتديها لنتكيّف مع العالم.
وفي هذا الاحتراق معنى عميق: ليست النار التي تحرقنا هي نيران الحياة الثقيلة، بل تلك التي تضيئنا من الداخل. فكل فكرة عظيمة، وكل لحظة صدق، وكل تغيير حقيقي، يبدأ بوميض صغير. يذكّرنا باشلار بأنّ الكيان الإنساني لا يولد من صدمات كبيرة دائمًا، بل من شرارات خفية تُضيء فجأة وتفتح طريقًا جديدًا للروح. إنّ لهيب الشمعة، بصغره الظاهر، يوقظ فينا هذا الإدراك: أن ما يبدو ضعيفًا قد يحمل قوة لا تُرى.
ومن أجمل ما يقدّمه باشلار في كتابه هو تصويره للحلم. فالشمعة، في خياله، ليست واقعية تمامًا؛ إنها نافذة للعبور من المادة إلى الحلم. ومع كل اهتزاز للفتيل، تتحرك داخلنا ذاكرة بعيدة أو رغبة نائمة أو فكرة كانت تبحث عن فسحة لتولد. كأنّ الشمعة تحمل على ضوئها أرواحًا صغيرة لذكرياتنا. وهنا يظهر البعد النفسي: فالنفس لا تحتاج إلى ضوءٍ ساطع كي ترى، بل تحتاج إلى نورٍ خافتٍ يسمح للأسرار بأن تخرج دون أن تخاف من الفضيحة.
وفي النهاية، يجعلنا باشلار ندرك أن التأمل في الشمعة ليس هروبًا من العالم، بل عودة إليه بروح أكثر رهافة؛ فالنور الصغير الذي نحرسه في خلواتنا هو ما يجعلنا نواجه ظلام الخارج بثقة.
إنّ لهيب الشمعة يعلّمنا أن الإنسان لا يحتاج إلى أن يكون نارًا عظيمة، يكفيه أن يكون نورًا مستقيمًا، صادقًا، ثابتًا مهما اهتزّت الحياة من حوله.
وهكذا يقدّم لهيب شمعة درسًا خفيًّا: أنّ المعرفة ليست ما نتلقاه بعقولنا وحدها، بل ما يشعّ في قلوبنا حين نصغي إلى أبسط الأشياء.. تلك التي تُخبرنا دائمًا أنّ النور الذي نبحث عنه قد يكون مشتعلاً أمامنا، في شمعةٍ صغيرة، تنتظر فقط أن نتأملها.