عبدالله العولقي
دخلَ أبو الأسود الدؤلي إلى ابنتِه في البصرةِ، فقالتْ له: يا أبَتِ ما أشدُّ الحرِّ!، (رَفَعَتْ أشدّ) فظنّها تسألُه وتسْتفْهِمُ منْه، أيُّ زمانِ الحرِّ أشدُّ؟، فقالَ لهَا: شهْرُ صفر، فقالتْ: يا أبتِ إنّما أخْبرْتكَ ولمْ أسْألَك، فأتى أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ، فقال: يا أميرَ المؤمنين، ذهَبتْ لغةُ العربِ لمّا خالطت العجم، وأوشكَ إنْ تطاولَ عليها زمانٌ أنْ تضْمحِلّ، فقالَ له: ومَا ذلك؟، فأخبرهُ خبرَ ابنته، فأمرهُ أنْ يضعَ علمَ النحو، وهكذا وُلِدَتْ قواعدُ اللغةِ العربيّةِ التي نعرفُها اليوم، فحديثنا اليوم عنْ أحدِ عباقرةِ العربِ في تاريخِهم القديم، شخصيّةٌ مبدعةٌ ومتعدّدةُ المواهب، فهو كما أسْلفنا أوّل منْ وضعَ قواعدَ اللغةِ العربية، وابتدأَ أصولَ علمهِ بتقسيم الكلام إلى اسمٍ وفعلٍ وحرف، ثم فرّق بين الكلماتِ المُعْربةِ والمبنيّة، كما يُحْسَبُ له إنجازاً لُغُوياً آخر، فهو أوّلُ من نقّط المُصْحفَ الشريفَ ووضعَ النقاطَ على الحروفِ بطريقةٍ بدائيّةٍ ساهمتْ في ضبطِ قراءةِ القرآنِ الكريم، فكانَ يُمْلي على كاتبه قائلاً: إذا رأيتَني قدْ فتحتُ فمي بالحرف فانقطْ نقطةً أعلاه، وإذا رأيتني قدْ ضَممْتُ فمي فانقطْ نقطةً بينَ يَدَي الحرف، وإنْ كسرتُ فانقطْ نقطةً تحتَ الحرف، فإذا أتْبعتُ شيئًا منْ ذلكَ غُنّة فاجعلْ مكانها نقطتين، فكانَ هذا نهجُ أبي الأسود في تشكيلِ الحروف، لذا يُعدّ أوّل من نقّط المصاحف، وقدْ تطوّر التشكيلُ بعده على يدِ الخليلِ بن أحمد الفراهيدي إلى الشكلِ الذي نراه اليوم، ولكنْ يُحْسَبُ لأبي الأسود الدؤلي ريادته في ابتكارِ الفكرةِ الإبداعيةِ الأولى للتنقيط.
وُلِدَ أبو الأسود الدؤلي في العهدِ النبويِّ لكنّه لمْ يتشرفْ بلقاءِ ورؤيةِ النبيِّ -صلى الله عليهِ وسلّم-، فعدّهُ المؤرّخون من التابعين، ويُصنّفُ أيضاً من رُواةِ الحديث، فقد روى مجموعةً من الأحاديثِ عنْ عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وأُبيّ بن كعب، وأبي ذرٍّ الغفاري، والزبير بن العوام، وبعدَ الفتحِ الإسلاميّ للعراقِ هاجرَ الدؤلي إلى البصرةِ التي كانت قبلَ الفتحِ الإسلامي عبارةً عنْ مركزٍ تجاريٍّ استراتيجيٍّ يقعُ بينَ مُلْتقى طُرقِ القوافلِ التجاريّة، فكانت البصرةُ بمثابةِ نقطةِ اتصالٍ تجاريٍّ وثقافيٍّ بين بلادِ فارس شرقاً وبلاد العربِ جنوباً والرُّومان شرقاً وشمالاً، وكانَ يعيشُ فيها أقليّات عرقيّة وثقافية متنوّعة، فيوجدُ الإغريق اليونانيون الذين أحلّهم الإسكندرُ المقدونيُّ فيها، كما كان يسْكُنها أيضاً تجارٌ كبارٌ من فارسٍ والهند والعربِ والأنباط، وبعدَ الفتح الإسلامي تحوّلت البصرةُ من مركزٍ تجاريٍّ إلى مدينةٍ عصريّةٍ متكاملة، بلْ كانتْ أوّلُ مدينةٍ رسميّةٍ يبتنيها العربُ خارجَ الجزيرةِ العربيّة ويُقالُ إنّ فكرة بنائها تعود إلى القائد عتبة بن غزوان.
وسنتتبعُ في هذا المقالِ عبقريّة الدؤلي منْ خلالِ قُدْرته الذهنيّة على الجمعِ بين العقليّتين المثاليّة والواقعيّة، فقدْ تعوّدَ الباحثونَ عنْدما يتعمّقون في البحث عنْ سيرةٍ فكريّةٍ عظيمةٍ أنْ يصنّفوها، هل هي مثاليّة أم واقعيّة؟، فعندما تعرّضنا في مقالٍ سابقٍ عن الشاعرِ المُبدعِ بشّار بن بُرد، ورأينا كيفَ كانَ شخصيّةً واقعيّةً جداً من خلالِ شعرهِ وسلوكِه معاً، فقصائدُه في الصّداقةِ والعلاقاتِ الاجتماعية تتلاءمُ مع سلوكِه الشخصيِّ وذهنيّته الاجتماعيّة حينَ كانَ غارقاً في الأسْواقِ ومُخالطاً لجميعِ فئاتِ الطبقاتِ الاجتماعية حتى جاءتْ أشعارُه فهْماً دقيقاً لخبايا النفسِ الإنسانيّةِ وتناقضاتها السلوكيّة، لكنّنا اليوم أمامَ عبقريّةٍ نادرةٍ وشخصيّةٍ فذّةٍ منْ شخصيّاتِ تاريخنا العربي والإسلامي، شخصيّة جمعتْ بقوةِ ذكائها بينَ ذهنيّتي المثاليّة والواقعيّة، بينَ النخبويّة والشعبيّة، بينَ التفكيرِ المثاليِّ الذي يُحلّلُ المسائلَ إلى معطياتٍ منطقيّةٍ ومُقدّماتٍ ثمّ يستنبطُ منها نتائج وحلولٍ للمشكلة، وهذا هو التفكيرُ الذي قاده إلى اختراعِ علمِ النّحوِ وقواعدَ اللغة العربيّة، وبينَ التفكير السُّفسطائي الواقعيِّ الذي يجعله غارقاً في مخالطةِ جميعِ فئاتِ طبقاتِ المجتمعِ البصريّ، يُجادلُهم ويحاورُهم في كلّ شؤونِ الحياة، دونَ أيِّ ترفعٍ أو نخبويّةٍ، بلْ إنّه يحاولُ سفسطائياً أنْ يغالطَ الناسَ فيمدحُ المذمومَ ويُحسّنه أمامهم!!.
سنُناقشُ أولاً ذهنيّته المثاليّة عبر عقليّته التي تمكنتْ بذكائها المتّقد أنْ تُؤسسَ علمَ النحو وتضع قواعد للغة العربيّة، هذه القواعدُ التي ترضخُ لأسسِ الفلسفة المثاليّة التي أرسى منهجَها الفيلسوفُ الإغريقيُّ القديمُ أرسطو، فهي تخضعُ لمعيارَي الاستنباط والقياس، وهنا يأتي التساؤلُ المهمُّ، هلْ كانَ للجاليةِ اليونانيّةِ التي كانتْ تقيمُ في البصرةِ ونقلتْ علومُها إلى المدينة أثرٌ في ثقافة الدؤلي الذي التقط فكرهم من كتبهم ونقاشاتهم وحواراتهم؟، وبالتالي فقد استفادَ منْ إرهاصات تلك الفلسفةِ اليونانيّةِ في وضْعِ أُسُسِ علمِ النحو، ربّما يكونُ الأمرُ كذلك!، وربّما تكونُ الصورةُ متعلقةً بتميّز عقلِ الدؤلي وفرادته الذهنيّة التي أوصلته إلى هذا التأسيس!، بمعنى أنّ ذهنيّته الفطريّة قدْ أوصلتهُ إلى مرحلةٍ ذهنيّة علميّة مُتقدّمة تتشابه في مُعْطياتها واستنتاجاتها مع مدرسةِ أرسطو المثاليّة دونَ التأثر المباشر بها، وهذا الأمرُ قدْ يبدو طبيعيّاً إذا علمْنا أنّ الحاجةَ تفتقُ الحيلة كما يُقال، فأغلبُ الاختراعاتِ والكشوفاتِ العلميّةِ جاءتْ من بابِ الحاجة، فالحاجةُ التي ذكرتُها كتبُ التراثِ العربيِّ في سرديّاتها المُتباينة فيما بينها تكادُ تتفقُ جميعُها في علّةِ الحاجةِ وسببها، بمعنى أنّ تلكَ الجالياتِ الأجنبيّة المتواجدة في البصرة هم بالفعلِ السببِ الحقيقيِّ الكامنِ وراءَ اختراعِ علم النحو كما جاءَ في الحكايةِ التراثيّة التي سردْناها في بدايةِ المقالِ عندما بدأ تأثيرُهم الّلغوي يؤثرُ بشدةٍ في سلامةِ اللغةِ الغريزيّةِ المتوارثةِ والتي كانت تعتمدُ في السابقِ على فطرةِ السليقةِ في استعمالِ الإعراب، كما يقولُ أحدُهم:
ولستُ بنَحَوِيٍّ يَلُوكُ لسانَه
ولكنْ بَدويّاً أقولُ فأعْربُ
أمّا إذا عُدْنا للوجهِ الآخرِ منْ ذهنيّة الدُّؤلي وأعْني فلسفته الواقعيّة فسنجدُها تتحققُ من عدّة زوايا، فسلوكيّاً يُعدُّ الدؤلي منْ بُخلاء العربِ المشهورين، ولكنْ واقعيّته الذهنيّة لا تجعلْه يكتفي بهذه السمةِ المذمومةِ عند العرب، بلْ تجعلُه يتفاخرُ بها ويدعو الناسَ إلى الحرصِ وعدمِ البذلِ!!، فهو هنا يُفلْسِفُ سلوكَه المضاد للتيّار السائد، ويُبدِّلُ سفْسَطائيّاً مذمته إلى مدحٍ وثناءٍ، فنجدْهُ مثلاً يقول:
يَلومُونَني في البُخلِ جَهلاً وَضلَّةً
وَلَلْبُخلُ خَيرٌ مِن سؤالِ بَخيلِ
لقدْ جاءَ في كُتبِ التراثِ العربيِّ العديدُ من الحكايا والرواياتِ التي تحدّثتْ عنْ بُخْله وشُحّه في الطعام، ومنْ ذلك أنّه كان يَحمرّ وجهُه إذا رأى ضيفاً قادماً إليه، وتختلفُ عيناه، وتبدو ملامحَ الانزعاجِ والضيق على محيّاه، فكان يضربُ سوطه على الأرض تهديداً لمنْ يقتربُ من طعامِه، وكانَ أهالي سوقِ البصرة يختلفونَ إليه منْ أجْلِ الاستطرافِ معه حولَ بُخْله، فكانَ إذا قدّمتْ له زوجتُه الطعام، يقولُ لها: اغلقي الباب، فقدّمتْ يومَاً عشاءَه ونسِيتْ الباب، فاقتحمَ أحدُ المساكين بابّه وجلسَ يأكلُ معه على المائدة، فغضبَ أبو الأسود الدؤلي وقامتْ قيامته، فلمّا تعشّى الضيفُ، قامَ أبو الأسود إلى حبْلٍ، فشدّ يدَ الضيفَ ورَبطها مع رِجْله، وحَبسَه في بيتِه قائلاً له: واللهِ لا أتْرُكك في الليل تُؤْذِي المسلمين وتتطَفّل على طعامِهم، فحبسهُ ليلةً كاملةً حتّى صلاةِ الفجر!!.
كما نجدُ واقعيّة الدؤلي أنّه كانَ مُسْتشاراً ومُصْلِحاً اجتماعيّاً للنّاس في البصرة، وهذه الوظيفة تقتضي أنْ يكونَ صاحبُها واقعيّاً لا مثاليّاً وإلّا فكيفَ سينجحُ في إدارة مُهمّته التي تقتضي شيئاً من التنازلِ الشخصيِّ والتذاكي في التوفيق بين المُتخاصمين، فكانَ يحلُّ مشاكلَ الناسِ في البصرةِ حتّى عُرفَ أنه المرجعيّة الاجتماعيّة للناسِ في البصرة، فقد وصلتْ ذهنيّتُه الواقعيّة أنّه لمْ يكنْ يجلسُ مع نخبةِ العلماءِ والفضلاءِ فحسبْ، بلْ كانَ ينزلُ أيضاً إلى مستوى النّاسِ ويتعايشُ معهم ويُجادلُهم، وفي كتبِ التراثِ قصصٌ كثيرةٌ عنْ ذلك، حتّى عندما بلغَ الثمانين وكبُرَ سِنُّه ووهَنَ عظْمُه، فكانَ ينزلُ إلى الأسواق ويخالطُ التجارَ وأصحابَ المهنِ المُختلفة، وله فلسفةٌ ظريفةٌ حول ذلك، فعندما عابَ عليه أحدُ الفضلاء النخبويين هذا السلوك، وقال له لو جلستَ في البيت لكانَ أفضلَ لك وأنتَ في هذا السنّ!، فأجابه بفلسفةٍ واقعيّةٍ عميقةٍ: صدقتَ يا أخي، ولكنّ الركوبَ على حماري يشدُّ أعضائي، وجلوسي في الأسواق لأسمعَ من أخبارِ الناس مالا أسمعُه في بيتي، وألقى إخواني، ولو جلستُ في بيتي لأغتمّ بي أهلي، وأنِسَ بي الصّبي، واجترأ عليّ الخدم!!.
وإذا رجعْنا إلى شعرهِ وأدبهِ سنجدُ مثاليّته وواقعيّته معاً، فسنجدُ واقعيّته السفسطائية في امتداحِ البخل كما أسْلفنا في بيته الشهيرِ سابقاً، وسنجدُ مثاليّته في قصيدةٍ شهيرةٍ له يعدُّها أهلُ التربيةِ ورجالِ التعليمِ دستورهم الأساسي في مجالهم، وهي قصيدةٌ فنيّةٌ رائعةٌ عدّها النقادُ منْ عُيون قصائدَ الحكمةِ في التراثِ العربي، وهي قصيدةٌ من بحر الطويل، ذلك الوزنُ المفضّلُ عند أبي الأسود الدؤلي، فهي قصيدةٌ ذات فلسفةٍ عميقةٍ وتتعلقُ بمبادئَ الأخلاق، وتحديداً الجانب السيئ والمظلم منها، فيبتدؤها بموضوعِ الحسدِ في خمسةِ أبيات، ثم موضوع السفاهة في ثلاثةِ أبيات، وهكذا، وحديثُه عن الحسدِ يأتي في سياقِ ردّةِ فعْلِ المُبدع تجاهَ الفئةِ التي تُضاد عبقريّته كُرهاً للتميز، هذه الفئة التي يشتكي منها المبدعون في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فيقول:
حَسَدُوا الفتى إذْ لمْ ينالوا سعْيه
فالكلُّ أعداءٌ له وخُصُوم
فنجدُ هنا ذهْنيِّته المثاليّة حاضرةً عندما يُقدّمُ حَسَدَ الخُصومِ في واقعِ الحياةِ كظاهرةٍ طبيعيّةٍ في الوجود، فيستهلُّ رائعته بخطابِ شكوى يقدّمه الشخصِ المُبْدعِ تجاه هؤلاءِ الحسّادِ الذين يتجمّعونَ حوله، يُقلّلونَ منْ أهميّته، ويذْكرون نقائصه، ويتغاضونَ عنْ إبداعاتِه وروائعِه، فيوجّهُ خطابَه لهمْ في البيتِ الثاني بالتشبيه:
كضرائرِ الحَسْنَاءِ قُلْنَ لوجْهِهَا
حَسَداً وبغْيَاً إنّه لدميمُ
ما يهمُّنا في هذهِ القصيدةِ ثلاثة أبياتٍ بديعة، حيثُ يدعو فيها إلى أهمِّ أنواعِ التربية، وهي التربية بالقدوة، فالقدوة تتضادُّ وتتنافى مع الجمْعِ بين سُلوكَين مُتناقِضَين، وحتى يُثْبتُ وجهةَ نظرهِ فهو يُقدِّمُ تجربته التربويّة في سياقٍ مثاليٍّ بديعٍ عندما يُقدّمُ خطابَه التربويّ بمقدّمتَين منْطِقِيّتين يصلُ من خلالهما إلى استنتاجٍ منطقي، فالمقدّمةُ الأولى تنصُّ على نهْيِ المُربِّي أنْ يجمعَ بين سُلوكَينِ متناقضين:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ
عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتُ عَظيمُ
ليتحوّلَ بها إلى المقدّمةِ الثانية، وهي نصيحةٌ تربويّةٌ ثمينةٌ تتعلّقُ بالقدوةِ أيضاً، ولكنها تسمو بالتربويّ لتجعله ثابتَ المبدأ تجاه سلوكه حتى يصلَ إلى أسمى مراحلِ التربيةِ، وهي مرتبةُ الحِكْمة:
ابْدأ بِنَفسِكَ وَانَهها عَن غِيِّها
فَإِذا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكيمُ
ليصلَ بعْدَها الدؤلي بفكرهِ المثاليّ بعدَ أن استهلّ فلسفتُه بمُقَدّمتينِ منْطِقيّتين إلى مرحلةِ الاستنتاج وحلِّ الإشكاليّة التربويّة:
فَهُناكَ يُقبَل ما وَعَظتَ وَيُقتَدى
بِالعِلمِ مِنكَ وَيَنفَعُ التَعليمُ