أ.د.عمر بن عبدالعزيز المحمود
دائماً أتخيّل أن الأدب مدينة واسعة، تتقاطع فيها الأزمنة والأمكنة والمشاعر؛ مدينة لا تُرى كلها من الوهلة الأولى، بل تحتاج إلى مرشد يلتقط إشاراتها، ويُصغي إلى ما تقوله جدرانها وأرصفتها وممرّاتها الضيقة، ولأن الأدب ليس مجرد نصوص تُقرأ، بل هو خبرة تُعاش ووعي يتحرّك، فإن الاقتراب منه يحتاج إلى مقدار من الحساسية التي تجعلنا قادرين على رؤية ما يتوارى خلف الكلمات، وما يخفيه النص أكثر مما يُظهره، تلك هي (الممرّات السرّية) الحقيقية للأدب: تلك الممرّات التي لا تفضي إلى فهم النص فحسب، بل إلى فهم أنفسنا وطريقة تمثّلنا للعالم.
الأدب في جوهره ليس مرآة صافية، ولا صورة جاهزة للعالم؛ إنه محاولة لالتقاط ما يعجز الواقع العادي عن قوله، ففي اللحظة التي نقرأ فيها رواية أو قصيدة أو مقالة، نحن لا نبحث عن معلومة، بل عن أثر، عن ضوء خافت يخترق طبقات وعينا، عن إحساس رمادي صغير يبدّل نظرتنا إلى شيء كنا نراه كل يوم، هذا التحوّل الخفيف الذي يكاد لا يُلاحظ هو ما يجعل الأدب أكثر ضرورة من أي معرفة مباشرة، فالمعرفة تُقدّم الإجابات، أما الأدب فيقدّم الأسئلة، والأسئلة وحدها هي التي تُبقي العقل يقظاً والروح حيّة.
ولعل الجوهر الأعمق للأدب يكمن في قدرته على فتح مساحات للتخيّل، ليس بطريقة هروبية أو تجميلية، بل بطريقة تنشّط وعينا بالعالم، فحين نقرأ قصيدة عن مدينة غارقة بالمطر، نحن لا نبحث عن وصف للمطر، بل نبحث عن إحساس المطر حين يلامس الروح، عن ذلك الارتجاف الصغير الذي يجعل المدينة تتحوّل إلى كائن حيّ يتنفّس ويبوح، هنا يصبح الأدب وسيلة لإعادة تشكيل العالم من جديد، لا كما هو، بل كما يمكن أن يكون إذا نظرنا إليه بعيون أخرى، والقراءة بهذا المعنى ليست عملية استهلاك، بل إعادة خلق مستمرة، ممارسة للخيال، وتجربة وجودية تُعاد صياغتها في كل قراءة.
من بين (الممرّات السرّية) التي يفتحها الأدب: قدرته على تحرير مساحات لم نقلها في حياتنا اليومية، فالنص العظيم يشبه زجاجاً غير مرئي نطلّ منه على دواخلنا، نرى ما أهملناه، وما أرجأناه، وما خفنا مواجهته، حين نقرأ نصاً عن الفقد أو الوحدة أو الحنين، فإننا في الحقيقة نقرأ أنفسنا، نواجه تلك الأجزاء التي خبّأناها في أعماقنا، الأدب يمنحنا الكلمات حين نعجز عن قول شيء، ويمنحنا الصمت حين يكون الكلام عبئاً؛ ولهذا كانت أكثر اللحظات الأدبية تأثيراً هي تلك التي تلمس مناطق هشاشتنا، وتربّت عليها دون أن تفضحها.
ليس صعباً أن ندرك أن الأدب طوال تاريخه ظلّ يفعل شيئاً واحداً في جوهره: يوسّع الإنسان، يوسّع قدرته على الفهم، وعلى التعاطف، وعلى تخيّل مصائر الآخرين، نحن لا نقرأ الرواية لنعرف ماذا سيحدث للبطل في النهاية، بل لنفهم كيف يحدث، وكيف يتغيّر، وكيف تتشكّل دواخله تحت ضغط الحياة، التعاطف الذي تمنحه لنا الرواية لا يشبه أي شكل آخر من المعرفة؛ فهو تعاطف نقدي، متأمل، يجعلنا نعيد التفكير في نظرتنا للأشياء، ولو أراد المرء أن يقارن بين المعرفة العلمية والمعرفة الأدبية لوجد أن الأولى تُعلّمنا كيف يعمل العالم، أما الثانية فتُعلّمنا كيف نعيش فيه.
ما يجعل الأدب عالماً لا حدود له هو أنه لا يكتفي بتقديم صورة واحدة أو رؤية واحدة؛ إنه يمعن في التعدّد، في التناقض، في الجدل، النص العظيم لا يقدّم حقيقة جاهزة، بل يثير أسئلة كبرى حول الحرية، والمصير، والذاكرة، والهوية، وفي زمن يكثر فيه الضجيج وتتصارع فيه الخطابات تصبح الحاجة إلى الأدب أشدّ إلحاحاً، فالأدب يعلّمنا أن نصغي، أن نهدأ، أن نعيد التفكير، أن نشكّ دون أن نفقد قدرتنا على الحبّ أو على الإيمان بالإنسان، إنه يقترح شكلاً آخر من الفهم، فهماً لا يقوم على القطعيات بل على الانفتاح، ولعل هذه القدرة على استيعاب التناقض هي التي تجعل الأدب إحدى القوى الثقافية القليلة القادرة على حماية الإنسان من أحادية التفكير.
ولا يمكن الحديث عن (الممرّات السرّية) للأدب دون التطرّق إلى تلك المساحة الخفيّة التي يصنعها النص بين ما يقوله وما لا يقوله، فالصمت في الأدب ليس غياباً، بل حضور مكثّف، البياض الذي يتركه الكاتب في نهاية جملة، التردّد في صوت الراوي، الإيماءة التي لا تُشرح، كل هذه ليست فراغات بل ممرّات للمعنى، إن النص الذي يشرح كل شيء يفقد قدرته على الإيحاء، والنص الذي يترك مساحات للظلال يمنح القارئ فرصة ليكتمل المعنى فيه، وهذا التواطؤ بين الكاتب والقارئ هو ما يجعل القراءة حدثاً إبداعياً لا يقل عن الكتابة نفسها.
في هذا الإطار يصبح الأدب مساحة للمقاومة أيضاً؛ مقاومة التبسيط، مقاومة الاستهلاك السريع، مقاومة السرديات المهيمنة، النص العميق يرفض أن يتحوّل إلى سلعة، يرفض أن يُختزن في جملة واحدة، إنه يطالب قارئه بأن يبطئ، أن يتأمل، أن يعيد القراءة، ولعل أعمق ما يفعله الأدب اليوم هو أنه يعيد الإنسان إلى نفسه في عالم يزدحم بالانشغالات، فحين نمسك كتاباً ونغلق كل الضوضاء من حولنا، نكتشف أن في داخلنا ممرّات لم نزرها منذ زمن طويل، وأن الأدب يعرف كيف يقودنا إليها دون أن يرفع صوته.
ومع أنّ الأدب يحمل هذه القدرة على التغيير، إلا أن أثره ليس دائماً مباشراً أو سريعاً، فالتحوّل الذي يحدث في القارئ يشبه تسرب الماء في الصخور: بطيء، صامت، لكنه عميق ودائم، قد لا ندرك التغيير فوراً، لكننا نكتشف بعد زمن أن شيئاً ما أصبح مختلفاً في داخلنا، أن نظرتنا إلى الحياة صارت أكثر اتساعاً أو أكثر نعومة أو أكثر عمقاً، وهذا هو جوهر الأدب: أنه يغيّرنا دون أن يطلب منا إعلان ذلك.
ولعل أحد (الممرّات السرّية) التي يفتحها الأدب أيضاً هو قدرته على خلق ذاكرة موازية لذواتنا، فالنصوص التي نقرأها تنضمّ ببطء إلى سيرتنا الشخصية، القصيدة التي رافقتنا في لحظة حزن تصبح جزءاً من ذاكرتنا، والرواية التي قرأناها في سفر طويل تصبح مرتبطة بذلك المكان، وذلك الضوء، وتلك النافذة، الأدب بهذا المعنى لا نقرأه فقط، بل نعيشه، ونختبره، ونتحوّل به إلى نسخة أكثر امتلاء من أنفسنا.
وقد يكون أحد أسباب حاجة المجتمع إلى الأدب اليوم هو أن الأدب يمنح الإنسان فرصة لتهذيب حساسيته تجاه العالم، فالقسوة التي تنتشر في الحياة اليومية ليست دائماً نتاجاً لسوء النيّة بقدر ما هي نتاج لغياب الخيال، الإنسان الذي لا يقرأ لا يستطيع أن يتخيّل الآخر، لا يستطيع أن يشعر به، لا يستطيع أن يقدّر هشاشته، والخيال الذي يصنعه الأدب ليس خيالاً طفولياً؛ إنه خيال أخلاقي، يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والعالم، ولهذا كان الأدب عبر التاريخ قوة للتنوير، ليس لأنه يُعلّم الحقيقة، بل لأنه يُعلّم الإنسان كيف يبحث عنها.
ولأن الأدب لا يقدّم خلاصات جاهزة، فإنه يعلّم قارئه كذلك قيمة الشكّ، الشكّ الذي لا يدمّر اليقين، بل يحرّره من الجمود، في كل رواية عظيمة أسئلة مفتوحة، وتأويلات متعدّدة، ومساحات قابلة لإعادة القراءة، هذه الطبيعة غير المكتملة للنص الأدبي هي التي تجعل الأدب فنّاً حيّاً؛ فنّاً لا ينتهي عند طبعة واحدة، ولا عند جيل واحد، فكل قراءة تضيف طبقة جديدة، وكل قارئ يفتح ممراً جديداً قد لا يراه غيره، والدهشة التي نشعر بها حين نقرأ نصاً للمرة الثانية ليست دليلاً على تغيّر النص، بل على تغيّرنا نحن.
إن (الممرّات السرّية) للأدب كثيرة ومتداخلة، لكنّ أكثرها خفاءً وأعظمها أثراً هو ذلك الممر الذي يفتح بين الكاتب والقارئ دون أن يراه أحد، ذلك الخيط الرقيق من التواطؤ الجمالي، من الثقة، من الإنصات المتبادل، الكاتب يكتب وهو لا يعرف قارئه، والقارئ يقرأ وهو لا يعرف الكاتب، ومع ذلك تنشأ بينهما علاقة لا تشبه أي علاقة أخرى، علاقة تنبني على الإشارة، على اللمسة، على الوميض، وهذا الوميض هو الذي يجعل الأدب قادراً على عبور الزمن والمسافات، وقادراً على أن يظل حيّاً حتى بعد اختفاء أصحابه.
الأدب ليس ترفاً، ولا زينة ثقافية، ولا نشاطاً جانبياً، الأدب ضرورة من ضرورات الوعي الإنساني، دونه تصبح اللغة مجرّد أداة، وتصبح المشاعر سطحية، ويصبح العالم أقل قابلية للفهم، ومعه يصبح الإنسان أكثر قدرة على التحمّل، على الفرح، على الانكسار، على النهوض، الأدب لا يغيّر العالم مباشرة، لكنه يغيّر أولئك الذين يستطيعون تغييره، وإذا كان لكل إنسان ممرّ سريّ يختبئ فيه من ضجيج العالم، فإن الأدب هو الممرّ الذي يختار الإنسان دخوله بإرادته الحرة؛ لأنه يعرف أنه سيخرج منه شخصاً مختلفاً.
هكذا في كل قراءة، ننزل درجات جديدة في هذا الدهليز الجميل، ونتقدّم خطوة أخرى داخل (الممرّات السرّية) للأدب، تلك الممرّات التي لا تُفضي إلى نهاية؛ لأنها في الحقيقة لا تؤدي إلا إلى شيء واحد: اتساع الإنسان.