علي حسين (السعلي)
بدأ يقرأ في كتاب ثقافة الاختلاف والاختلاف الثقافي للدكتور سعد البازعي، ثم انتقل بعدها إلى قراءة يوميات فتاة صغيرة لآن فرانك، لم يعجبه الكتابان خصوصاً البازعي لأنه مجموعة مقالات كان قد نثرها ثم جمعها في كتاب تتركز أغلبها حول النقد الأدبي وعالم الشِعر التفعيلة منها وقصيدة النثر، لكن يوميات بنت فرانك راقت له لكنها تأخذه إلى منحى هتلر ومحرقة اليهود، لكن هذا لا يمنع أن يوميات آن مهمة بل لاقت صدى كبيراً في أوساط المثقفين، ومع كل هذه الإغراء القُرّائي فعدل عن إكمال متعته القرائية وقرر بينه وبينه نفسه أن يضع عنواناً شبيهاً ليوميات آن فرانك وسمَّاه يوميات قرويّة فكتب:
عشتُ في شارع التلفزيون بمدينة الطائف وتحديداً حارة «25» القريبة من برحة القزاز الساحة التي تعوّدتُ أن أذهب مع رفاقي يوم كنّا صغاراً كل جمعة لأستمتع بتنفيذ حكم القصاص شرعاً، حركة السيّاف تدهشني تصيبني بالترقب وهو يدور حول فريسته، وفي كل مرة يلمّع سيفه بثياب الجاني. أذكر ذات مرّة وأنا معلّقا في شجرة لأبصر ذاك المنظر المرعب، وعيناي مفتوحتان لمشاهدة ذاك السيف الذي يقبّل رقبة المجرم موتاً، وفيما أرى قرب تدفق الدماء لم أعرف عن نفسي ولا أين أنا؟! إلا أخي يقول لي: بشرني هل أنت سليم؟ قمتُ مذعوراً التفت لساحة مسجد العباس وإذا السامر قد انفضّ, حين انتقلنا إلى مدينة ثانية لا تقل أهمية عن دلوعة الغيم الطائف وهي الباحة وأنا بالنسبة للصغار هناك غضّ بلهجة غريبة عليهم، فهمت فيما بعد أن لهجتي فيها «عربجية» وأنا بالكاد أفهم ما يقولون لهجة زهرانية قحّة خصوصاً في أول ستة أشهر لي هناك، كنتُ مدللاً لأني آخر العنقود كما يقولون، ولم أنسَ سباق - أعزكم الله - الحمير وكلٌّ وشطارته يسبق كلٌّ منّا الآخر، المشكلة وقتها أن الحمار الذي اعتليت صهوته وكأني فارس مغوار يدخل معركة حامية الوطيس هكذا كان شعوري وقتها، وفعلاً انطلقت كحصان عنترة والسيف بيدي متمثلاً:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
قيل الفوارس ويك (علي) أقدمِ
وكانت المفاجأة سقطت تحت الحمار بعد أن تلقيت منه ضربة على جبيني؛ أحسست بعدها أني دخلت مغارة مظلمة وعيني تلمح وحشاً أمامها، عندما كبرت وتحقق بعض حلمي الذي رسمته لي بأن أدخل قسم الإنجليزي، وفعلاً تحقق لي بعد رضا لجنة المقابلة ما أردت، كنت كالفراشة الملونة التي ترتفع وتهبط إلى العشب فتلتقط الأزهار ذات الرائحة الزكية وتطير عبر بساتين لترسم على الورود قُبْلة الفجر وابتسامات الصباح, وإذ بي أضع رجلي نزولاً في أول سلمة سقطت ولا أعرف وقتها كيف وصلت آخره، حتى أيقنت عندما شاهدت أوراقي متناثرة هنا وهناك وكان شماغي ورائي عقالي بيد أحد الزملاء وهو يقول لي: سلامات سلامات، لملمت بعضي مع كثير من حيائي ومضيت متعباً وشاهدت يداً تطبطب على كتفي.. يا لصدفة القدر معلمي في المعهد العلمي بالباحة يأخذ بيدي بعد أن سلمتُ عليه بحرارة، وبعد السؤال والكيف وعن الحال استغرب كيف تحب الإنجليزي وأنت مبدع في مادة النحو؟ وكيف أني حفظت ألف بيت من كتاب ألفية بن مالك في شرح ابن عقيل، وقلت له إني أحب الشعر الغربي من أمثال تي سي اليوت ومسرحيات وليم شكسبير وهوميروس والذي يُعتبر ينبوع الشعر الإغريقي وشعره نموذج مثالي للشعر العالمي، يكفي ملحمته «الإلياذة» و«الأوديسة»، فأقنعني بأن أختار كلية ثانية وهي كلية اللغة العربية تخصص أدب ونقد وصار ما تمنّى دون أمنيتي.
سطر وفاصلة
إذا داهمت الأفكار والليل يبات في عينيك وصدرك مقبوض بثقل جثّاما يرقد عليه ورأسك عصَبتُهُ حمّى تتصفّد حبات التعب على شجيرات رموشك ورجليك مكبلة بالسلاسل كحبرٍ انسكب محشوراً في المحبرة، ويديك تنتفض كرقصة كأفعى من مزمار ساحر، وظهرك مسافرُ للمدى والندى يغطيه الغمام والمطر يتساقط على بطنك وأنت لا تستطيع الحراك، وتسمعُ صوتاً كأنك بالكاد تسمعه من بئر يقولك لك: خذني إليك أنقذني أرجوك! أنزل دلو نجاحك حتى تلتقط ما بداخل الدلو احضنه جيداً انزع الغطاء أدخله في المحبرة وابدأ اكتب يومياتك.