خالد محمد الدوس
علم اجتماع الأدب.. الذي ظهر في أوساط القرن الـ20 على يد العديد من المفكرين وعلماء الاجتماع المحدثين أمثال المفكر والأديب جي ميشو، والعالم بيير بورديو، والعالم لوسيان غولدمان وغيورغ لوكاش.. كعلم فرعي حديث من فروع علم الاجتماع العام.. له مدارسه ونظرياته وأبحاثه ومقوماته العلمية.. ينظر إلى الشعر ليس كإبداع فردي محض، بل كنتاج لحظته التاريخية والاجتماعية، فهو يتأثر بالبنية الاقتصادية والطبقية.
ويمكن أن يعكس الشعر صراعات طبقية، أو يكون تعبيراً عن هموم فئة اجتماعية معينة، فمثالا الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي كانوا يعبرون عن احتجاجهم على البنية القبلية والقيم المجتمعية السائدة في زمانهم عبر «اللغة الشعرية»، فالشعر كفعل اجتماعي له وظائف اجتماعية فعالة فهو يسهم في صياغة وصون الهوية الثقافية والوطنية، والقصائد التي تمجد التراث المجتمعي، وتعمل على توطيد الشعور بالانتماء، كما أن الشعراء يستخدمون كلماتهم كسلاح لنقد العادات الاجتماعية البالية أو الظلم أو الفساد؛ ساعين إلى إحداث التغيير في الوعي الجمعي.
كما أن الشعر كفعل اجتماعي يصور معاناة الآخرين.. ويمكن أن يخلق جسراً من التعاطف بين أفراد المجتمع وتعزيز التضامن الاجتماعي وبث روح الألفة.
وهنا يصبح «علم اجتماع الأدب» أداة فاعلة ومنهجية تحليلية لفك شفرة النص الشعري وذلك من خلال تحليل المضمون الاجتماعي للموضوعات التي يتناولها الشعر مثل: الهوية والعولمة والتحضر والفقر والغنى والحب وقضايا المرأة والعدالة وغيرها وربطها بالظروف الاجتماعية السائدة، وتحليل أيضا الجمهور المتلقي لمن يكتب الشعر هل للنخبة المثقفة أم العامة؟ وغالبا ما يكون الشعر –كوثيقة اجتماعية- رد فعل على تحولات اجتماعية وفكرية وثقافية.. تعكس روح العصر وقيمه وأزماته ومتغيراته..!! لأن الأدب ومكوناته ليس مرآة المجتمع فحسب، بل هو جزء فاعل في تشكله وتطوره.. يتأثر بالسياقات الاقتصادية والسياسية والثقافية والطبقية ويشارك بدوره في إنتاجها وتغييرها.
فعلى سبيل المثال لو بحثنا في سيرة رائد الشعر العربي في العصر الأموي وأكبرهم مكانةً أبو فراس: (همام بن صعصعة التميمي البصري) المعروف بلقب «الفرزدق» الذي شكل مع الثنائي الشاعر جرير، والشاعر الأخطل بما عرف ب»المثلث الأموي»..! وكان عظيم الأثر في اللغة بعد أن برع في جميع أنواع الشعر.. في الهجاء والفخر والمديح والغزل والرثاء والزهد، وبالنظر إليه من عدسة علم اجتماع الأدب تظهر لنا شخصية مختلفة تماما، فهو لم يكن مجرد شاعر موهوب.. بل كان مرآة عاكسه لمجتمعه ومسجلا لتحولاته الاجتماعية والسياسية مما جعله رائداً فكرياً بامتياز في هذا الميدان قبل أن يؤسس له بعصور..!
وكما هو معلوم أن علم اجتماع الأدب يدرس العلاقة الجدلية بين النص الأدبي والبنُى الاجتماعية وهو بالضبط ما كان يفعله (الفرزدق) في مجتمعه، وذلك من خلال التعبير عن الصراع بين البُنى الاجتماعية القديمة والجديدة. حيث كان العصر الأموي مرحلة تحول حاسمة من القبيلة الى الدولة، وكان ممثلا بارزاً للقبيلة وأنسابها وقيمها في مواجهة صعود قوى جديدة لكونه من طبقة الأشراف (بنو تميم) وكان هجاؤه ليس مجرد تحقير عرقي..! بل هو تعبير عن أزمة الطبقة الارستقراطية القديمة وتأكل نفوذها الاجتماعي والاقتصادي أمام صعود فئة جديدة التي اكتسبت قوة من خلال انخراطها في إدارة المجتمع الأموي.
كما لعب شعر (الفرزدق) دورا في توثيق البنية الطبقية والصراع على «رأس المال الرمزي» مع الشاعر الفخم (جرير) حيث كان المجتمع الأموي يعج بالطبقات وكان رأس المال الرمزي.. النسب والشرف والفصاحة يتنافس عليه القبائل وكانت قصائد الفرزدق وخاصة في مفاخراته مع جرير كانت معارك رمزية لحسم من يملك رأس المال الرمزي الأكبر..!
كما أن الثنائي «الفرزدق وجرير» ساهما في تسليط الضوء على دور المؤسسات الاجتماعية حيث كانت سوق عكاظ وغيرها بمثابة «مؤسسات» لإنتاج وتداول الأدب ومنافساتهما كانت العروض الحية لهذا السوق، وعلى ضوء ذلك يتحدد قيمة الشاعر ومكانته بناء على تفاعل الجمهور والحكام.
وبالطبع لو تخيلنا أن (علم اجتماع الأدب) معاصراً مثل إسهامات عالم الاجتماع الفرنسي (بيير بورديو)، والناقد الأدبي الاجتماعي (لوسيان غولدمان).. عاشا في العصر الأموي لكان الفرزدق مصدرا أساسيا لدراساته.. لأن (الفرزدق) لم يقدم لنا قصائد جميلة فحسب..! بل قدم وثيقة اجتماعية عن نظرية صراع الطبقات، وتحليلا سياسيا لآلية عمل السلطة، وسجلا أنثروبولوجيا لعادات القبائل وقيمها..
ولذلك فإن (أبو فراس) بقوة شعره وذكائه كان رائداً في علم اجتماع الأدب ليس مبالغة بل هو اعتراف بعبقرية شاعر استطاع أن يحول الشعر من غرض فردي إلى خطاب جماعي يعكس هموم مجتمع في أزهى عصور التحول والصراع.. وكان شعره مختبرا اجتماعيا حقيقيا.. استخدم الشعر كأداة لتحليل وتمثيل والتأثير في البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في عصره.. بعد أن تجاوز الجماليات اللغوية المحضة في عالم الشعر والأدب.