أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
(مها) ذاتُ القلب الطاهر، والوجهِ السمح، والبسمةِ المشرقة، التي قضتْ نحبَها فجأة، وكانت ملء السمع والبصر.
فاجأنا فقدها، والفقد المفاجئ أشدُّ نكالًا بالروح من غيره، والغيابُ غير المنتظَر أوقعُ فجيعة من سواه.
مرّ نحو ثلاث سنواتٍ على موتِ مها، وكان لوفاتها صدًى عند الناس ما ظننّا أنه يقع، إذْ كانت نشرت في حسابها بموقع (إكس) قبل وفاتها بنحو أسبوعين منشورًا قالت فيه: «استيقظتُ قبل يومين والارتياح والسرور يملآن قلبي، لكني عجزت أن أعرف السبب، فصرفت عنه تفكيري، وما أن كبّرتُ للصلاة حتى تذكرتُ جزءًا جميلًا في منامي كدتُ أنساه، وهو سبب ارتياحي، رأيت أبي -رحمه الله- سعيدًا جدًّا يسلّمني جائزة، ويقول لي: إنهم يُثْنون عليك».
ليت مها تعلم ما سمعنا من ثناء الناس، ودعائهم، وترى كثرة ما دُعي لها، وأثنيَ على خلُقها ودينها.
رأيت مها -رحمها الله- آخرَ مرة قبل وفاتها بيومين، وكان من القدر العجيب، أنها كانت تحكي ما وقع لها، وهي في زيارة لإحدى المدن، كانت تقول: شعرت بألم في الصدر، وأحسست أني (سأموت)، وحين نطقَتْ (سأموت) انقبض صدري، ولم أدرِ أن هذا اللفظ العابر كان نذير الموت! وأن نظرتي تلك كانت الأخيرة، وأن جلستنا الحميمة هي آخرُ الجلسات بصحبتها.
أراد الله لها الخير، فكان بيتها بجوار بيت والدتي حفظها الله، وبينهما باب، فكانت تُلِمّ بها الساعةَ بعد الساعة، تقعد عندها وتؤنسها، وتصنع لها قهوتها، وتشاربها وتؤاكلها، فكانت أبرَّنا بأمّنا، وما زرتُ والدتي -حفظها الله- إلا ترقّبتُ دخول مها، فإذا جاءت أقبلتْ بوجه مشرق، وبسمة سخيّة، ولم تكن تسَعُني الفرحةُ برؤيتها، إذْ كانت حبيبةً إلى القلب، كانت نسيمًا يهبّ سَجْسَجًا لطيفًا، يداعبُ الوجه، ويثير الغبطة، ويروّح القلبَ بأن في الدنيا مثلَ مها.
كانت صوّامة قوّامة، ولما ثقُلت أمي -حفظها الله وقوّاها- عن صلاة التراويح في المسجد، صارت مها تصلي بها في غرفتها.
كانت مها موهوبة، قارئة ومبدعة، ولكنها كانت نبعًا زُلالًا يكتُم تدفُّقه، فلا يسيح منه على وجه الأرض سوى الدفقة بين الحين والحين.
في طفولتها وهي في الابتدائية (نحو سنة 1402هـ/1982) اشتركتْ في مسابقة (أرامكو) للرسم، التي نُظّمت للأطفال، ففازت بإحدى الجوائز، وكانت الجائزة (موسوعة المعرفة) في عدة مجلدات، وظللنا نحتفظ بها حينًا من الدهر، حتى أَلْوتْ بها الأيام.
وفي عنفوانِ شبابها، كتبت قصة، وسعتْ إلى نشرها، فأخفقت مساعيها، وكانت تقرض الشعر، ولو أعطته جهدَها لبرّزتْ فيه وبزّتْ. ومن أبياتها التي نشرتها راثية والدنا رحمه الله:
لك في الوجدان أزكى الذكرياتْ
وعليك القلبُ يُزجي أدمعَهْ
رحم الله فقيدًا حين ماتْ
لم يمتْ بل سار بالروح معَهْ
ولها أبيات داعبت بها ابنتها الصغرى (شادن)، منها قولها:
ومَن كبُنيّتي شادنْ
تقولُ بصوتِها الفاتنْ
خُذيني بين أكناف الـ
حروفِ، وغُنجُها باد (نْ)
فأنت الشعرُ أكملُه
وإنك درُّه الكامنْ
وأنت البدرُ في العَليا
يضيءُ ونورُه بائنْ
في صبيحة وفاتها، شعرتْ بألم في الصدر لم يمهلها، وكأنه (جلطة) رئوية، ففاضتْ روحُها إلى بارئها وهي تتشهّد، وكنتُ في ذلك الشهر الذي ماتت فيه، أعاني مرضَ الدم الذي عاودني بعد كُمون، وكنتُ أمشي بالعصا، وأحمل ثقَل الوعكة، فزادتني وفاتها وهنًا على وهن، وكانت الفجيعة بها مضاعفة.
ذهبتُ لشهود الصلاة عليها ودفنها، على كرسي متحرك، وألقيت النظرة الأخيرة على جسدها الطاهر، وأنا أستنجد جأشي، فأنجدني، حتى إذا وقفتُ أدعو لها على قبرها بعد الفراغِ من الدفن، غالبتُ الأسى، واستمْسَكتُ بما بقي من جَلَد، وعمّا قليلٍ ثم فاض الحزن، واغرورقت العينان، وأسلمت المحاجرُ حُمولتَها من الدمع.
لي مع مها ذِكَرٌ تعزّ على النسيان:
كنتُ لقّنتُها وهي في نحو السابعة من عمرها أبيات شوقي:
بين الحديقة والنهرْ وجمال ألوان الزهرْ
سارتْ (مها) مسرورةً مع والدٍ حانٍ أبرْ
فكانت تطربُ لها وتتطرّبُ بها، لورود اسمها فيها.
وحين كنت في السنة السادسة الابتدائية، ونحن في (مشروع ابن تركي) في الشفا القديم، غبتُ يومًا عن المدرسة لوعكة ألمّت بي، فأرادت أمي أن تُنهضني لأتحرك وأقاوم الوعكة، فطلبتْ إليّ أن أشتري من البقال المجاور بعض ما تحتاج، فخرجتُ، ومها معي، وكانت في الرابعة من عمرها، فاشتريت لها حلوى، وظلّت تذكّرني هذه الخَرْجةَ إلى ما قبل وفاتها بسُنيّات! ولا سيما ما كانت تلثغ به من كلمات حلوة، أذكر هذا لأقول: إنها كانت مولعةً بالذكرى، تحبّ الماضي، كانت كتلة من العواطف المتأجّجة؛ وهذا ما جعلها تمتلئ شجنًا وحزنًا بعد وفاة والدنا رحمه الله، وما فتئتْ تترحّم عليه كلّ حين، وتتذكره وتدعو له، فكانت أبرَّ أبنائه به دعاءً له وترحّمًا عليه.
وحين كنا في حي الشفا، كانت تذهب معي إلى كلية التربية في الملز، فكنتُ أنزلها في كليتها، ثم أمرّ عليها ظهرًا، وهي تنتظرني عند زاوية الكلية لأُقِلّها، وكم مرةٍ كانت تُخرج من حقيبتها شَطِيرة اشترتها لي! هل تعلم مها أن تلك الشطائر تبدو لي اليوم ألذّ ما أكلت؟
حين دهمني سرطان الدم قبل نحو ثلاثَ عشْرةَ سنة، ونُوّمت في المستشفى، كنت أرى السهومَ في عينيها والشفقةَ عليّ نابضةً في وجهها، وما زالت أصداءُ دعواتها الصادقة ترنّ في أذني، وتستنفرُ وجدي عليها وشوقي إليها.
رحمك الله يا مها! يا نهرًا تدفّقَ حبًّا وحنينًا وطهارةً. سلامٌ عليكِ في الصالحين، وسلامٌ عليكِ في الأتقياء البرَرَة، وسلامٌ عليك في سجِلّ الأنقياء.
أردت رثاء مها، شعرًا، فما أسمح لي، وتعزّزت القوافي، وطال مِطالُها إياي، وكأن الشعر حزن على مها، فاحتبس طويلًا، ثم لان:
كأنكِ يا مها لم تعرفيني!
لـماذا بالنّوى لـم تُؤذِنيني؟
فأنهلَ منكِ قبلَ طُروقِ ليلٍ
أماط السترَ عن فجرٍ حزينِ
رحلتِ فُجاءةً والعهدُ بيني
وبينكِ أن أكونَ وأن تكوني
أظنُّكِ تدركين شُفُوفَ قلبي
فخفتِ عليَّ من أن تَفجعيني
لأنكِ كنتِ ريحانَ الأماسي
وكنتِ أرقَّ ما في الياسمينِ
وكنتِ حديقةً تمشي وتعطي
رحيقًا بالشِّمالِ وباليمينِ
وكان لديك مغنًى من وفاءٍ
زرعتِ به بساتينَ الحنينِ
غداةَ رحلتِ لم أُذهَلْ لأني
ذُهلتُ عن الذهولِ وعن يقيني
ولُذتُ ببعضِ ظنٍّ مستريبٍ
وذو الآمالِ يفزعُ للظنونِ
***
رحلتِ وما رحلتِ، فأنت مني
بمنـزلةِ النِّياطِ من الوَتينِ
أراكِ بكلِّ وجهٍ ألتقيه
كأنك صرتِ هُدبًا في جفوني
وأفتَحُ بابَ أوهامي لأنسى
فتغلقُه الفجيعةُ كلَّ حينِ
ويستدعي المصابُ قيودَ حزنٍ
فلا أنفكُّ أرسُفُ في أنيني
***
لماذا لا يكونُ الموتُ ضيفًا
حريريَّ الملامحِ والغُضونِ؟
لماذا كلما نُسِّيتُ حزنًا
أجَدَّ الدهرُ ذاكرةَ المنونِ؟
لماذا؟ أيُّ جدوى يا (لماذا)؟
ووجهُ القولِ معصوبُ العيونِ!
***
سأبقى يا مها أحتازُ ذكرى
لها في الروحِ دندنةُ السكونِ
بكيتُكِ راثيًا جزِعًا لعلّي
أوَفّي الشمسَ دينًا من ديونِ
وكيف أشُبُّ نارًا من حروفٍ
وقد وقفتْ رياحُ الجرحِ دوني؟