د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
يتهم المؤلف فهد عاشور علماء العصر العباسيّ، لا يستثني منهم أحدًا، في العراق بأنهم قدموا «صورة خيالية عن العرب، وعن أصولهم التاريخية، وعن اللغة التي تكلموها، تحولت مع مرور الزمن، إلى مسلمة بالنسبة للعرب أنفسهم. تتشكَّل عناصر هذه الصورة من مجموعة من المزاعم الأسطورية أبرزها (1) أن اليمن هو مسقط رأس العرب التاريخي (2) وأن جزيرة العرب هي موطن العرب وحدهم منذ أقدم العصور؛ (3) وأن العرب كانوا يعيشون في عزلة عن الشعوب المجاورة لهم، فرضتها عليهم المسطحات المائية التي تحيط بجزيرة العرب من الجنوب والشرق والغرب، والصحراء التي تفصل أجزاءها الشمالية عن بلاد الشام والعراق؛ (4) وأن لغتهم التي تحدثوا بها هي اللغة الفصحى، التي نظم بها الشعر الجاهلي، والتي نزل بها القرآن؛ (5) وأن هذه اللغة حافظت على نقائها في جزيرة العرب بسبب عزلة العرب اللغوية (6) حتى ظهر الإسلام في بداية القرن الـ 7م، حيث بدأت تختفي تدريجيا نتيجة لاحتكاكها بغيرها من لغات الشعوب المسلمة» (ص7 ). ويحاول أن ينقض ما سبق، معتمدًا على الآثار والنقوش ليزعم أنه «لم يكن اليمن في التاريخ القديم عربياً، ولم يعرّف سكانه أنفسهم على أنهم عرب مطلقاً. لقد بات مؤكداً أن مسقط رأس العرب في بادية الشام (جنوب سوريا، وشرق وجنوب الأردن)، وفي أقصى شمال غرب السعودية (منطقة الجوف وأقصى شمال غرب الحجاز)» (ص 7).
والسؤال الآن متى كانت النقوش وحدها هي التي تقرر قضية كبيرة مثل هذه؟ وإن لم يكن اليمن عربيًّا فمتى تعرّب ولماذا تعرّب؟ وأما اللغة العربية فمعلوم عند العلماء الغربيين الذين يعتمد عليهم وينقل أفكارهم أنها عربيتان عربية جنوبية وعربية شمالية، وكانت الرحلات منذ القدم تسير من اليمن نحو الحجاز ونحو هجر. ولم يزعم العلماء أن العرب في عزلة والقرآن أخبرهم عن رحلتي قريش {إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:2].
يزعم المؤلف أن أول القبائل العربية كانت في بادية الشام «ومنها انتشرت شرقاً باتجاه العراق وغرباً باتجاه النقب وسيناء، ثم جنوباً باتجاه نجد والحجاز، وصولاً إلى اليمن وعُمان». وذهب إلى أن العرب «ولم يستوطنوا كل هذه المساحة الشاسعة، التي تساوي تقريباً ثلاثة أرباع مساحة الاتحاد الأوروبي أو نصف مساحة قارة أستراليا. لقد كانت هذه الأرض مأهولة بشعوب كثيرة غير عربية، امتلكت تراثاً ثقافات ولغات مختلفة، ثم جرى تعريبها مع مرور الزمن، نتيجة لتمدد القبائل العربية وانتشارها التدريجي من موطنها الأم في بادية الشام باتجاه المناطق الجنوبية لأسباب اقتصادية، في الغالب، تمثَّلت في التجارة المربحة مع اليمن. فقد لعبت القبائل العربية دوراً تجارياً بارزاً، منذ مطلع الألفية الأولى قبل الميلاد، في جلب البخور والتوابل والنباتات العطرية من اليمن إلى بلاد الشام والعراق ومصر وحوض البحر المتوسط»(ص 8-9).
إن لم تكن هذه مزاعم وخيالات فما هي؟ لم عربت القبائل غيرها ولم تتغلب عليها لغات اليمن أو لغات الأمم الأخرى التي لها تراث وثقافات؟ وهل الأسباب التجارية وحدها تفعل هذا الفعل؟ ولمَ لمْ تفعله في الأمم المجاورة التي رحلت إليها للتجارة أيضًا؟ وأما النقوش فبوسع كل مسافر إلى أي بلد أن ينقشها وهو يستريح من عناء سفرته، ألم يكتشفوا نقوشًا ثمودية في ولاية كلورادو الأمريكية.
قال المؤلف «لم تكن جزيرة العرب في العصور القديمة أرضاً منعزلة لغوياً وثقافياً، كما تخيلها كتاب العصر العباسي»(ص 9). وعدد بعض الأمم التي غزت مناطق من الجزيرة وتحدث عن قيام دولة الأنباط، والأنباط حسب تصنيف بعض المؤرِّخين عرب، ثم قال «لقد تركت قوافل التجار والمسافرين التي مرت بهذا الطريق، خلفها نقوشاً آرامية ويونانية ونبطية ونبطية- عربية وتدمرية وتيمائية ودادانية وحسمية وصفاوية وثمودية وسبئية ومعينية وقتبانية ما تزال شاهدة على أن العزلة اللغوية المزعومة لم تكن سوى أسطورة محضة»(ص 9-10) وختم بقوله «إن مزاعم عزلة جزيرة العرب الثقافية واللغوية لا تدعمها وقائع التاريخ، ولا نصوص النقوش التي عثر عليها في جزيرة العرب، ولا سجلات الأمم المجاورة للعرب في العصور القديمة»(ص 10). ولا أعلم أحدًا نازع في هذا؛ فالجزيرة لم تكن معزولة ودليل هذا اقتراضها اللغوي من لغات غير العربية يشهد بهذا ما في القرآن من ألفاظ دخلت العربية فعربتها.