د. غالب محمد طه
في المرحلة المتوسطة، كانت المقررات الدراسية تمنحنا فهماً عاماً للكويت؛ نعرف تاريخها، ونقرأ عن تراثها، ونحفظ موقعها الجغرافي. لكنها لم تكن كافية لترسم صورة حقيقية في وعينا. بالنسبة لي ولجيلي، بقيت الكويت، كغيرها من الدول، أكبر من أن تُختزل في صفحات الكتب. ما جرى في صباح الثاني من أغسطس عام 1990، حين غزا العراق الكويت، أخرج هذه المعرفة من إطارها النظري، وجعلها تتجسد أمامنا كقصة حيّة تتقاطع مع تفاصيل حياتنا.
أتذكر صباحاً غريباً، كانت فيه الأخبار تملأ البيت، والوجوه مشدودة، وأنا أتابع الشاشة دون أن أفهم كل شيء، لكنني شعرت أن شيئًا كبيرًا يحدث. رغم صدمتي كطفل، فتحت تلك اللحظة أعيننا على الكويت، ليس كما تُعرّفها الكتب، بل كما تُحكى القصص التي نعيشها؛ فقد تحولت في وعينا إلى حكاية معاصرة لم نكن مجرد متابعين لها، بل كنا جزءًا من فصولها الأولى، نقرأها بعيون مشدودة، ونحملها في ذاكرتنا كحدثٍ شكّل وجداننا العربي.
زاد هذا القرب عندما انضم إلى فصلنا زملاء عادوا من الكويت بسبب تلك الأحداث. لم تكن لهجتهم سودانية خالصة، ولا خليجية صرفة، بل كانت نبرة طفولة تشكّلت في الكويت، واكتسبت مفرداتها من هناك. في البداية، كان هناك نوع من الحذر، لكن مع مرور الوقت أصبحوا جزءًا منا، لا كضيوف، بل كأصدقاء يحملون معهم ذاكرة مختلفة وتجربة تستحق أن نصغي إليها. لطفهم وتواضعهم جعلهم قريبين جدًا منا، وشاركوا شغفهم وذكرياتهم عن الكويت: بحرها، بيوتها القديمة، أكلاتها، وقصص حياتها اليومية، ما جعل تجربتي معها أكثر ثراءً، وأضفى على معرفتي بها طابعًا إنسانيًا حيًا.
ومع مرور الوقت، وجدت أن علاقتي بالكويت لم تتوقف عند المدرسة أو عند تلك الذكريات، بل امتدت إلى عالم الثقافة، حيث كانت مجلة «العربي» بوابتي الأوسع نحو فهم أعمق لهويتي العربية. نشأت بيني وبين المجلة علاقة وجدانية خاصة؛ كنت أبحث عن أعدادها رغم محدودية مصروفي، وأشعر بفرح غامر حين أعثر على عدد قديم يعود لتاريخ ميلادي على أحد أرصفة المدن، وكأنني أستعيد لحظة شخصية من خلال ورقٍ يحمل ذاكرة جماعية. لم تكن «العربي» مجرد مجلة، بل نافذة تطل منها الكويت على العالم العربي، وأطل منها أنا على الكويت - كرمز ثقافي حيّ يمتد تأثيره إلى فضاء الثقافة العربية بأسره.
ولم يكن هذا الشغف بي وحدي، فقد وصل حب «العربي» إلى آخرين جمعوا أعدادها واحدًا تلو الآخر حتى كوّنوا مكتبات كاملة تحتفي بها، كأنهم يحتفظون بجزء من الذاكرة العربية على رفوف بيوتهم، لا كأرشيف، بل كحضور حيّ يتجدد مع كل قراءة. كانت صورها ومقالاتها وحواراتها مع رموز الفكر والأدب بمثابة أرشيف حيّ يوثّق تحولات العقل العربي، ويذكّرنا بأن الثقافة، حين تُكتب بصدق، لا تفقد بريقها حتى حين يصمت الورق.
وعندما نتأمل مسيرة المجلة منذ انطلاقتها عام 1958، نرى أنها كانت أكثر من مجرد مطبوعة دورية؛ كانت منبراً حياً يتلاقى فيه الأدب والفكر والثقافة، وتشكلت عبرها ملامح الوعي العربي الحديث، لا من خلال المقالات وحدها، بل عبر الأسلوب الذي خاطب القارئ العربي بلغة أصيلة، قريبة من وجدانه. ومن خلال فروعها مثل «العربي الصغير» و»كتاب العربي»، امتدت رسالتها إلى الأجيال الجديدة، لتزرع فيهم حب اللغة والمعرفة، وتمنحهم أدوات لفهم العالم بلغتهم الأم، وبصوت عربي أصيل.
ومع تحول النسخة الورقية إلى منصة إلكترونية، لم يقتصر الأمر على تغيير وسيلة النشر، بل حمل دلالة أعمق عن قدرة الثقافة العربية على التكيف دون أن تفقد جوهرها. صحيح أن رائحة الورق والنوستالجيا المرتبطة بانتظار العدد الجديد ستظل غائبة، لكن روح المجلة حاضرة في وجدان القارئ، تواصل مخاطبة العقل والوجدان، وتحافظ على رسالتها. هذا التحول لا يُنهي عهدًا، بل يفتح فصلًا جديدًا من الحضور الثقافي، يصل إلى الأجيال الجديدة بنفس العمق الذي وصل به إلينا.
واليوم، ونحن نحتفي باختيار الكويت عاصمة للثقافة والإعلام العربي لعام 2025، لا يبدو هذا الاحتفاء مجرد اعتراف رمزي، بل هو امتداد طبيعي لمسيرة ثقافية وإعلامية طويلة، أسهمت في تشكيل الوعي العربي الحديث. هذا الاختيار لا يكرّم الكويت وحدها، بل يوقظ فينا ذلك الشعور القديم بأن الثقافة كانت على الدوام بيتاً عربياً مفتوحاً للجميع، لا أرضاً بحدود. إنه يذكرنا بأن الإبداع العربي ملكٌ لنا كلنا، وهو نتاج تفاعل مستمر بين مختلف بلدان المنطقة.
والحق أن من يتابع المشهد الثقافي العربي يرى أن ما يحدث في الكويت ليس حالة منفردة، بل هو جزء من حراك أكبر تستعيد فيه الثقافة مكانتها وتأثيرها في حياتنا العامة. النجاح الذي تشهده فعاليات مثل موسم الرياض، أو افتتاح المتحف المصري الكبير، يؤكد هذا الحضور الثقافي الطاغي، ويظهر كيف يمكن للتراث أن يكون جزءًا من الحاضر، وأن يكون له دور حقيقي في تشكيل وعينا وتجديد هويتنا.
بينما تتغير ملامح الحياة من حولنا، تبقى الثقافة هي الثابت الذي نعود إليه لنفهم أنفسنا. فهي ليست ترفًا فكريًا، بل هي مرآة حقيقية تعكس ملامحنا حين تتشوه، وتعيد إلينا صوتنا حين يضيع بين الضجيج. والاحتفاء بالكويت، في هذا السياق، ليس تكريمًا لدولة بعينها، بل هو تذكير لنا جميعًا بأن الثقافة الحية قادرة على الجمع بين الماضي والحاضر، بين الفرد والجماعة، في لحظة واحدة تُشبه الصفحة التي لا تُطوى، بل تُفتح كل مرة لتُعيدنا إلى أنفسنا.
.. والاحتفاء بالكويت يذكّرنا بحقيقة بسيطة: مهما تفرقت بنا الجغرافيا، ستظل الثقافة هي بيتنا المشترك. هي اللغة، وهي الحكاية، وهي الورق الذي وحّد العرب.