د. محمد بن إبراهيم الملحم
كلمني يستشيرني حول مشكلة طفله الذي في الروضة قائلا ماذا تعتقد السبب في رأيك؟ فإن طفلي تذاكر له أمه ليكون جاهزا للاختبار لكنه عندما يذهب للمدرسة فإنه يجيب عن الأسئلة خطأ، فقلت له أي أسئلة وأي اختبار، أليس طفلك في الروضة! قال بلى، قلت فما هذا الاختبار الذي في الروضة، ومتى كانت الروضات تجري اختبارات للأطفال! وفي أي شرعة ومنهاج وعلى أي طريقة ومذهب هذا الأمر!
قال لي بل هذا المتبع لديهم، ولعلمك فإن الطفل لن يجدد عقده مع الروضة السنة القادمة إذا ظلت نتائجه منخفضة هذه السنة، وهنا دار رأسي وتوقف تفكيري، ليصدمني محدثي قائلا وهذا ما يقلقنا أنا ووالدته لأن هذه من الروضات الممتازة والتي لا نريد أن يخسرها طفلنا! قلت له: أخي الكريم مثل هذه الروضة لا يجب أن تندم على فراقها مهما كانت «سمعتها» فهي عندي متخلفة تربويا قرونا عديدة؛ إذ تمارس هذه الممارسة وتسن هذا النظام الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء في مفاهيم التربية والتعليم، لقد أحرق من في هذه الروضة كل كتب علم النفس التربوي ورموا خلفهم كل مفاهيم وممارسات التربية والتعليم وشرعوا لهم شرعة جديدة ومذهبا محدثا رائده الربح المالي على حساب طفولة الطفل وراحة بال والديه اللذين قاما وغيرهما بتربية لحم وعظم هذه الروضة بأموالهم حتى اشتد عودها فرمتهم بسهام الجهل والمادية الجشعة..
وعندما أقول ذلك فإني أعني ما أقول: ذلك أن مثل هذا التصرف ليس له معنى عندي سوى شيء واحد وهو التسويق الجائر، حيث يستهدف أصحاب هذا التصرف الاستراتيجي أن يكون طلاب روضتهم «متفوقين» معرفيا وهو ما يسوق لهم عند الوالدين الجهلة الذي باتوا اليوم ينساقون وراء دعايات الروضات التي «تخرّج» طلابا متقنين للمهارات الأساسية التي سيدرسونها في السنة الأولى الابتدائية (أو أغلبها) وذلك قبل أن يدخلوا هذه السنة مما يشجعهم على أن يلحقوا أولادهم وبناتهم بمثل تلك الروضات، ويؤكد هذا أيضا ما ذكره لي نفس الشخص وما سمعته من أقارب لي أيضا أنهم يقضون مساءات ليالي أيام الأسبوع في «المذاكرة» لأطفالهم الذين في الروضة!
ما شاء الله، إذن لم تعد الروضة مكانا يمارس فيه التعلم باللعب، وتعلم المهارات الحركية والأنشطة الاجتماعية التي تقوم السلوك وتنمي مهارات الطفولة، وإنما باتت موطنا لتكريس كميات معرفية تؤكد جودة هذه الروضة أو تلك ليقبل عليها مزيد من الزبائن المغرر بهم.
في أجيالنا السابقة لم نعرف ولم نسمع بطلاب روضة يذاكرون لأنهم سيتم سؤالهم غدا عن جوانب معرفية، ولم يرد على بالنا أنهم لابد أن يتفوقوا، كما لم نألف ان هناك «اختبارات» في الروضة! وبالمناسبة كنت سألت ذلك الذي حدثني عن اختبار ابنه: أهو اختبار شفهي أم تحريري؟ وكان هدفي هو بحث سبب عدم إجابة الطفل حيث كنت أتوقع بشدة أن الاختبار شفوي والذي يعتبر مظنة وقوع رهبة السؤال عند تطبيقه وهو ما قد يفسر كون الطفل يجيب في المنزل ولا يجيب في المدرسة.. وهي إشكالية متوقعة في أجواء الاختبار الشفوي، وغالبا ما تكون اختبارات الأطفال في الروضة أو الصفوف المبكرة من الابتدائية من هذا النوع مع تلطيف الموقف الاختباري بجعله يبدو وكأنه جزء من الدرس اليومي والذي تمارس فيه المعلمة تساؤلاتها مع الأطفال كعادتها أثناء تقديم قصة أو شرح مهارة، ولكنه فاجأني عندما قال إن الاختبار تحريري! وهو أيضا أمر خارج نطاق مرحلة الطفولة وإن كان متصورا نسبيا ولكنه يظل صورة مزعجة عندما تطبق في هذا السن.
أيها السادة الأعزاء، أدبيات التربية توصي بأن يكون التقويم في رياض الأطفال نمائيًا يقوم على الملاحظة في المواقف الطبيعية (سجلات قصصية، ملفات إنجاز، قوائم متابعة)، لا على الاختبارات، وهذا موقف راسخ لدى كل من الجمعية الوطنية لتعليم صغار الأطفال في أمريكا NAEYC وكذلك المنظمة الأوروبية للتقدم الاقتصادي OECD وأيضا اليونسكو UNESCO والتي ترفض أن يكون في التعليم ما قبل الابتدائي اختبارات «استعداد مدرسي»، وكذلك فإنه بحسب AAP Publications فقد ثقت الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال منذ سنوات مخاطر إساءة استخدام «اختبارات الاستعداد للمدرسة» في الأعمار الصغيرة، وتوصي بعدم توظيفها لاتخاذ قرارات قبول/ رفض أو تصنيف مبكر.
بعد كل هذا، لا أعرف ماذا أقول، ولكن أسأل الله أن يرحم التربية والتعليم ويغفر لهما ويجعل قبريهما روضة من رياض الجنة.!!
** **
- مدير عام تعليم سابقاً