د. محمد بن يحيى الفال
في الرابع من شهر نوفمبر الجاري هبت عاصفة ديموقراطية زرقاء، وهو لون الحزب الديمقراطي على بعض ولايات الساحل الشرقي الأمريكي وتحديداً في كل من ولايات فرجينيا، نيوجرسي ونيويورك.
ففي فرجينيا انتخبت آبجيل سبانبيرجر بمنصب حاكم الولاية لتكون أول امرأة تتولي حكمها، وكذلك فازت الأمريكية من أصول هندية غزالة هاشمي بمنصب نائبة حاكم الولاية، وذهب منصب المدعي العام للولاية لجي جونز وكل هؤلاء ينتمون للحزب الديموقراطي. الديموقراطية ميكي شييرل تم انتخابها لتولي منصب حاكمة ولاية نيوجرسي. بيد أن الفوز المبهر الذي ستكون له حتماً تبعات سياسية واقتصادية كبرى هو فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك والذي وصف نفسه في خطاب الاحتفال الساحق الذي حققه بأنه زهران ممداني الديموقراطي الاشتراكي، المهاجر، المسلم ولا يرى سبباً للاعتذار عن أي من الأوصاف التي وصف بها نفسه في رسالة تحدٍّ واضحة للرئيس دونالد ترامب، ولكل من حاولوا الوقوف في طريق تحقيق حلمه في الفوز بمنصب عمدة نيويورك أكبر المدن الأمريكية الملقبة بالتفاحة الكبيرة، والتي تعد المعبر الرئيس للولايات المتحدة وأيقونة الرأسمالية الأمريكية.
السؤال المفصلي هنا هو كيف استطاع هذا الشاب المولود في أوغندا لأبوين من أصول هندية تحقيق هذا الفوز المبهر الذي يعتبر بحق حلماً وردياً تحقق لمناصريه وكابوساً جاثماً على صدور مناوئيه. هناك عدة عوامل مفصلية هيأت لزهران ممداني تحقيق هذا الانتصار الاستثنائي، وهذه العوامل هي خلفيته العائلية، ضعف منافسيه لتولي منصب العمدة، الوضع الاقتصادي المتدهور لمدينة نيويورك، الحرب الإسرائيلية على غزة، ولعل العامل المحوري هو سقوط نظرية حارس البوابة المتعقلة بمقدرة وسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام.
تربي ممداني في كنف عائلة مثقفة عاشت في كينيا ثم هاجرت لجنوب أفريقيا عندما كان عمره خمس سنوات، وبعد سنتين قضتهما العائلة هناك هاجرت ووجهت بوصلتها للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتحديداً لمدينة نيويورك، حيث عمل والده محاضراً في جامعة كولومبيا أحد أعرق الجامعات الأمريكية بينما تفرغت والدته للعمل كمخرجة سينمائية.
والدته ميرا نير لم تكن فقط مخرجة اعتيادية بل لاقت شهرة كبيرة في أوساط عالم هوليوود السينمائي بعد ترشيحيها لنيل الأوسكار عند فيلمها الشهير «خلطة توابل المسيسبي»، «Mississippi Masala» وتدور أحداث الفيلم عن شاب أمريكي زنجي يعمل منظف سجاد قام بدوره الممثل الشهير دينزل واشنطن يتعلق بحب فتاة هندية استقرت عائلتها المهاجرة من أفريقيا في عمق الجنوب الأمريكي وتحديداً ولاية مسيسبي، وترفض عوائلهم هذه العلاقة مما يؤدي في نهاية المطاف بهما بالهروب بحبهما بعيداً عن الصرعات العائلية والثقافية التي رفضت القبول بهذه العلاقة.
المنافس الرئيس لزهران هو أندرو كومو الحاكم السابق لولاية نيويورك والذي لاحقته شبهات عديدة خلال توليه المنصب منها ما يتعلق بالتحرش الجنسي وأخرى باختلاسات ماليه؛ وهذا الأمر يجعل الكثير ينأون بأنفسهم عن ترشيحه.
والجدير بالذكر هنا فقد تخطي عدد من أدلوا بأصواتهم لمنصب العمدة مليوني ناخب، وهو رقم قياسي لم يسجل مثيل له منذ الستينات من القرن المنصرم، كذلك فأصوات اليهود كان لها بالغ الأثر بفوز ممداني حيث عبر 43% منهم ومن خلال استطلاع سبق الانتخابات عن نيتهم التصويت لصالحه، وتزايدت هذه النسبة إلى 67% لدى اليهود الذين لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين سنة.
الحرب الإسرائيلية على غزة التي اندلعت بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 والتي استمرت لأكثر من عاميين غيَّرت وبشدة وبطريقة غير مسبوقة تعاطف الرأي العام الدولي مع إسرائيل، وأضحى نقدها علناً وكما فعل ممداني أمرً مقبولاً مهما حاول المتعاطفون مع إسرائيل خلاف ذلك، فصور أشلاء القتلى من أطفال ونساء وشيوخ فجعت العالم وما تزال بالمستوي الأخلاقي الذي وصل إليه الجيش الإسرائيلي، وهو الأمر الذي فجع كثيراً من يهود العالم بمن في ذلك القاطنون منهم في نيويورك والذين يشكلون رقماً انتخابياً مهماً لأي مرشح.
العامل الأهم هنا في تمكن ممداني من الفوز بمنصب عمدة نيويورك هو السقوط العملي لنظرية حارس البوابة «Gate Keeper Theory»، وهي نظرية إعلامية تتلخص بأن لوسائل الإعلام من مؤسسات وصحفيين القدرة في تشكيل الرأي العام، حيث يعملون كحراس لما يبث من أخبار فيبثون ما يرغبون من أخبار ويحجبون خلاف ذلك؛ مما يجعل المتلقين وبصورة ممنهجة أسرى وجهات نظر موجَّهة تشكل في المحصلة النهائية قناعاتهم نحو القضايا التي تهمهم وفي تشكيل قراراتهم نحوها.
لهذه النظرية ذراع مهم وهو الصورة النمطية» Stereotype» وهي منتج أصلي لنظرية حارس البوابة، فمع الوقت ومع بث أخبار سلبية عن فئة من المجتمعات تتشكل لدى الرأي العام الجمعي صورة سلبية تتصف بكونها راسخة صعب تغيرها عن تلك الفئة، وهو الأمر الذي تعرض له المسلمون بشكل ممنهج في الإعلام الغربي والذي كانت نتيجته ظاهرة الخوف من الإسلام» Islamophobia».
ثورة الإعلام الرقمي بمنصات التواصل الاجتماعي التي أضحت المنافس الذي لا يشق له غبار للإعلام التقليدي أعادت وبقوة طرق تشكيل الرأي العام والذي تفرد بها الإعلام التقليدي لحقبة طويلة من الزمن. الحارس على ما ينشر أو لا ينشر قل تأثيره بوجود وسائل التواصل الإعلامي والتي فتحت أبواب تلقي المعلومات على مصاريعها.
نجح ممداني ومؤيدوه في استخدام وسائل التواصل الإعلامي ليفوز بمنصب العمدة، فالرأي العام يمكن القول بإنه أضحى يتلقى معلوماته من وسائل التواصل الاجتماعي بعيداً عن سيطرة وسائل الإعلام التقليدي، وهو الأمر الذي رأينا تحققه بشكل عملي في الفوز الساحق التاريخي لممداني.
في الأول من شهر يناير المقبل يتولى ممداني منصب عمدة نيويورك والتي وعد ساكنيها بتثبيت أسعار الإيجارات التي تستنفد أكثر من ثلثي مداخيل العاملين في المدينة، وكذلك وعد بنقل عام مجاني وتغطية شاملة للرعاية الصحية للأطفال، مهمة ليست بالسهلة وتزداد صعوبتها بصراعه مع الإدارة الحالية والتي وصف رئيسها ممداني بالشيوعي.
نتائج انتخابات الشرق الأمريكي رسالة واضحة للإدارة الأمريكية الحالية بأن عليها إعادة حزم أمورها قبل أن تهب عاصفة ديمقراطية كبرى في انتخابات الثالث من نوفمبر العام المقبل، حيث سيتم إعادة انتخاب كافة أعضاء مجلس النواب البالغ عددهم 435 نائباً و35 عضواً من مجلس الشيوخ المكون من 100 عضو.
حينها قد تلوح فرصة ثالثة للديموقراطيين لعزل الرئيس، وكما تقول العرب في أمثالها «الثالثة ثابتة» والتي ترجمتها» Third Time is a charm».